أولاً : البشارة الكونية بمحمد عليه السلام .
النبي محمد عليه السلام شهدت لرسالته الشجرة عندما جاءت تخد الأرض خداً ووقفت بين يديه ، وشهد له حنين الجدع عندما تركه واستخدم المنبر ، وشهد له الجمل الذي جاء يشكو صاحبه للنبي عليه السلام ، وشهد له الحصى وهو يسبح بين يديه ، وشهد له الحجر في مكة وهو يرد السلام عليه ، وشهدت له الأرض التي ازدانت بالخضرة والخصب في ديار سعد عندما حل بها الحبيب رضيعاً ، وشهدت له السماء عندما ملئت حرساً وشهباً كما صرح بذلك الجن .... فلئن لم يشهد كفار قريش حينها للنبي فكفى بهؤلاء شهوداً ، وما زالت قائمة الشهود والشهادات تتسع لأكثر مما نتصور يقول الله سبحانه وتعالى : {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ }الرعد43 فالكفار أنكروا الرسالة ، والآية بينت أنه كفى بالله شهيداً ، وشهادة الله تتضمن إشهاد كل ما حول النبي عليه السلام من جماد وطير وحيوان لرسالته ، كذلك بينت الآية أن علم الكتاب السابق قد تضمن شهادات تنبؤية صريحة تدل على محمد عليه السلام ، والشهادات كثيرة ... لكن هذه الشهادة التي عثرت عليها خلال دراستي وتحقيقي لمخطوطات قمران تعتبر في ظني من أعظمها .
ثانياً : تعريف بسيط بمخطوطات قمران .
مخطوطات قمران أو مخطوطات البحر الميت تعد من أهم المخطوطات الدينية التي تم اكتشافها في العقد المنصرم في خربة قمران بالقرب من البحر الميت ، وهي ترجع إلى نحو ألفي عام تشتمل على نصوص أصيلة لملة يهودية تعرف بالطائفة الأسينية ( هذا الاسم عليه ملاحظات ليس محلها هنا ) ، وقد توكلت لجان عدة في الغرب على تحقيق النصوص والتأكد من مصداقيتها التاريخية ، وقد استمر تحقيقها قرابة الخمسين عاماً .. وبداية الاكتشاف لمخطوطات قمران كان في عام 1947م صدفة على يد بعض الرعاة من بدو التعامرة .. واستمر التنقيب واكتشاف الباقي حتى عام 1958م ...
والنسخة التي بين يدي لهذه المخطوطات هي ترجمة لديب الخوري في ثلاث مجلدات وهي لنسخة طبعة دار غاليمار الفرنسية الشهيرة التي كلفت كل من الباحث الكبير أندريه دوبون والاستاذ مارك فيلونيكيو مع فريق مكون من أربعة عشر محققاً ... وخرجت بهذا الشكل الذي ترجمه ديب الخوري .
هذه نبذة بسيطة عن المخطوطات ، وهناك اتفاق من خلال الفحص للمخطوطات أنها ترجع إلى قرابة الألفي عام وبعض المخطوطات عمرها أبعد من ذلك بكثير .. أي انها كانت قبل البعثة المحمدية بأكثر من ستة قرون ... وهذا يعطي مصداقية لتاريخيتها .
أما مواضيع المخطوطات .. فهي خليط حمل الغث والسمين من الموروث الديني القديم .. ويحتاج التعامل معها إلى قدرات علمية خاصة هي مزيج من دراسات دينية وتاريخية ولغوية وثقافية للمرحلة التي تنتمي إليها هذه المخطوطات ، وجزء حيوي منها هو امتداد لكثير من التحريفات التي لا تقبلها نفس ، لكنها أيضاً تضمنت جزء من الحقيقة والتي يشهد لمصداقيتها الواقع ، فالكتاب فقط يدرس من خلال متخصصين .
ثالثاً : تأكيد القرآن الكريم على بشارة الكتب السابقة بمحمد عليه السلام .
قد جاءت الإشارة في القرآن الكريم في معرض الرد على اليهود في تعاطيهم مع كتبهم الدينية وتحريفهم لمدلولاتها .. إضافة لإخفائهم كثير من القراطيس التي تحمل وصف النبي محمد عليه السلام أو غيره من المعلومات .. يقول الله سبحانه وتعالى : (قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً ) [ الأنعام من الآية 91 ] وقد بين القرآن الكريم أن أوصاف النبي محمد عليه السلام كان يعرفها بنو إسرائيل كما يعرفون أبناءهم : {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }البقرة146 {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ }البقرة89
فهذه الآيات صريحة في الإشارة إلى أن كتب بني إسرائيل كان فيها أوصاف النبي عليه السلام بدقة ... وما زالت كتبهم المتداولة ( كتب العهد القديم ) تحمل كثيراً من الإشارات الدالة على محمد عليه السلام .
لكن ما أطرحه هنا هو من خارج دائرة كتب العهد القديم المتداولة ، بل من مخطوطات قمران التي تعج بكثير من أوصاف النبي عليه السلام في مواطن عدة ... أختار منها هنا على سبيل المثال وصية لاوي ، ولاوي هو أحد أبناء يعقوب عليه السلام وهو الجد الأكبر لموسى وهارون عليهما السلام فهما من سبط لاوي ... وبغض النظر هل الوصية وصى بها لاوي أو هي منسوبة له ، أو مأخوذة من نص نبوي آخر لأحد أنبياء بني إسرائيل ثم تم نسبتها للاوي نفسه ... فهذا الأمر لا يعنينا هنا .. أما ما نجزم به بحسب الدلائل والوقائع أن هذا النص كانت تعرفه الطائفة الأسينية وهو جزء من تراثها الديني قبل ألفي عام .. أي قبل البعثة .
رابعاً : نص البشارة الموجود في المخطوطات ( 2/343)
والآن مع النص الذي جاء بحسب التحقيق والترجمة تحت عنوان ( الكاهن الجديد ) ورمزية الكاهن تشير إلى نبي عظيم كما أنه في بعض المصطلحات القديمة يشار إلى إبراهيم عليه السلام بأنه كاهن ... ولن نقف كثيراً مع المصطلحات في التحقيق . جاء في نص قمران الجزء الثاني صفحة 343 وما بعدها .
وبعد أن ينفذ عقابهم ، سيختفي الكهنوت ، عندها سيبعث الرب كاهناً جديداً ، له سيكشف كلام الرب كله .
فهو الذي سينفذ عقاب الحقيقة على الأرض خلال أيام كثيرة ، نجمه سيشرق في السماء مثل نجم ملك .
وسيمحو الظلمات كلها من تحت السماء ، وسيسود السلام على الأرض كلها ، ستتهلل السموات في هذه الأيام ، والأرض ستبتهج والسحب ستستبشر .
ستنتشر معرفة الرب على الأرض مثل مياه البحار ، وسيكون ملائكة مجد وجه الرب في حبور بسببه ، السموات ستنفتح ، ومن هيكل المجد سيحل التقديس عليه .
مع صوت أبوي في الوقت نفسه مثل صوت إبراهام وإسحق ، ومجد العلي سيشهر عليه .
وروح البصيرة والتقديس سيحل عليه بواسطة الماء ... ولن يعقبه أحد من جيل إلى جيل ، وتحت كهنوته ستزداد الأمم في المعرفة ، وستستنير بنعمة الرب .
لكن إسرائيل ستتقلص في الجهل ، وستغرق في ظلام الحداد ، وتحت كهنوته ستختفي الخطيئة .
الكفار سيكفون عن فعل الشر ، والأبرار سيعتمدون عليه ، إنه هو الذي سيفتح أبواب الفردوس . انتهي ([1])
خامساً : تحليل سريع لبعض مدلولات النص السابق :
هذا النص القديم الذي قدر الله له أن ينكشف بعد ألفي عام لا يصدق في معانيه ودلالاته إلا على محمد عليه السلام ... بل هو أدق توصيف لرسول الرحمة العالمية ، بما حمله من توقيت البعثة ، وتغير اتجاه وخط النبوة ، ومواصفات دقيقة جداً لا يمكن حملها إلا على سيد المرسلين محمد عليه السلام ، ومزيد من الإيضاح سأتناول الفقرات السابقة فقرة فقرة بالأدلة :
1- ( بعد أن ينفد عقابهم سيختفي الكهنوت ) هذه العبارة تشير إلى العقاب بعد عيسى عليه السلام ويراد بها الهجوم على أورشليم ودمار الهيكل على يد الرومان ... وبعد أن ينفد العقاب سيختفي الكهنوت ([2]) ... وهذا ما حصل بالفعل حيث أن بني إسرائيل كان لا يخلو عهد من عهودهم من نبي لله ، لكن بعد عيسى عليه السلام اختفت النبوة قرابة الستة قرون .
2- (عندها سيبعث الرب كاهناً جديداً ، له سيكشف كلام الرب كله .) والكاهن الجديد أشارت له نصوص أخرى أنه من بين إخوة بني إسرائيل وليس منهم .. وهنا كلمة جديد إشارة إلى تغير في الاتجاه نحو رسالة جديدة على غير النسق السابق الذي كان امتداده من ناحية إسحق ويعقوب ، فأنبياء بني إسرائيل يمثلون خط الكاهن القديم .. والكاهن الجديد هو من خط آخر وهو من جهة إسماعيل عليه السلام ... فهذا معنى الكاهن الجديد .. إنه تغيير في اتجاه النبوة التقليدي المعهود . وعبارة له سيكشف كلام الرب كله ، فهذا المعنى أشار إليه القرآن الكريم بأن الكتاب الذي أنزل على محمد عليه السلام كان الكتاب المهيمن على ما قبله وفيه تبيان كل شيء ، ومن أدلة العبارة السابقة قوله تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) [ المائدة 48] (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ) [ النحل 89] فهذه الآيات وغيرها كثير تشير إلى أن محمد عليه السلام قد اختصه الله بكشف كلامه له بصورة مهيمنة أمكن وصفها بنفس العبارة السابقة ( له سيكشف كلام الرب كله )
3- (ساطعاً بنور المعرفة كما تلمع الشمس في وسط النهار ، وسيمجد في العالم كله ، سيشع مثل الشمس على الأرض . ) وهذا الوصف لم يكن إلا لمحمد عليه السلام فهو الشمس المنيرة أو السراج المنير يقول الله سبحانه وتعالى في حق النبي عليه السلام : {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً }الأحزاب46 أما كيف سيمجد في العالم كله فذلك ملحوظ في كل أنحاء العالم من خلال الأذان وما فيها من شهادة لمحمد بانه رسول الله ، كذلك يرشد إليه قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً }الأحزاب56 ، وهذا الوصف لم يقع لنبي مثلما وقع لمحمد عليه السلام .
4- ( ستنتشر معرفة الرب على الأرض مثل مياه البحار ، وسيكون ملائكة مجد وجه الرب في حبور بسببه ، السموات ستنفتح ، ومن هيكل المجد سيحل التقديس عليه . ) وهذه العبارة تشير بوضوح للعلم والمعرفة التي انتشرت في كل الأرض بسبب رسالة الإسلام وهذا باعتراف كل المستشرقين المعتدلين .. أما عبارة ملائكة مجد وجه الرب فهي إشارة إلى حملة العرش والملائكة الكروبيين اما الحبور فهو هذا التسبيح : {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ }غافر7 أما عبارة السموات ستنفتح فذلك إشارة إلى رحلة المعراج نحو السماء ، هذه الرحلة التي تميز بها النبي محمد عليه السلام .
5- (وروح البصيرة والتقديس سيحل عليه بواسطة الماء ... ولن يعقبه أحد من جيل إلى جيل ، وتحت كهنوته ستزداد الأمم في المعرفة ، وستستنير بنعمة الرب .لكن إسرائيل ستتقلص في الجهل ، وستغرق في ظلام الحداد ، وتحت كهنوته ستختفي الخطيئة . ) هذا النص يتطابق مع رسالة محمد عليه السلام بالضبط ففيه إشارة إلى بركات الوضوء والغسل وأثرهم في الطهارة والتقديس ، بل هما عنوان الطهارة ( الطهور شطر الإيمان ) أما عبارة لن يعقبه أحد من جيل إلى جيل ، فهذا ما أكد عليه النبي عندما قال : أنا خاتم الأنبياء ولا نبي بعدي ، والحديث الذي أشار فيه النبي عليه السلام بأنه اللبنة الأخيرة في البناء النبوي ، والقرآن صرح بذلك بقوله : ({مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً }الأحزاب40 أما إسرائيل ستتقلص بالجهل فهذا هو الحاصل مع بعثة محمد عليه السلام الذي كشف التحريفات السابقة كشف كثيراً من الحقائق التي تم تغييبها ، ولا أجد عبارة (ستغرق في ظلام الحداد ) الحداد هنا لأنه كاهن جديد خرج من غير الفرع الإسرائيلي ثم حسدهم للنبي ومحاربتهم له وهذا هو ظلام الحداد الذي غرقوا به وهو عين ما أشارت له الآية القرآنية : (فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ }البقرة89
6- (الكفار سيكفون عن فعل الشر ، والأبرار سيعتمدون عليه ، إنه هو الذي سيفتح أبواب الفردوس . ) وهذه العبارة فيها السر الأكبر ؛ حيث كان بنو إسرائيل ينظرون لكل الأمم حولهم ( الأميون ) أنهم كفار ، فلماذا الكفار سيكفون عن فعل الشر .. السبب بسيط لأنهم سيؤمنوا بتلك الرسالة الجديدة ويكونون من أتباع الحق ... كذلك من الذي سيفتح أبواب الفردوس إنه محمد عليه السلام ورد في مصنف أبن أبي شيبة : (بَلَى إنَّ الْجَنَّةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الأَنْبِيَاءِ حَتَّى أَدْخُلَهَا , وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتِي. ) ([3])
الخلاصة :
هذه جولة سريعة مع نص موجود في مخطوطات قمران هو قبل البعثة المحمدية بست أو سبع قرون ، ولاحظنا كيف أن هذا النص يصف الرسول محمد عليه السلام وصفاً دقيقاً .. هذا الوصف لم يصدق بكل جزء من أجزائه إلا على بعثته عليه أفضل صلاة وأتم تسليم ... وفي ظني هذا النص هو من أقوى المبشرات ببعثة محمد عليه السلام .. وقد كشفته لنا مخطوطات قمران ليكون الشاهد القديم الجديد على مصداقية رسالة محمد عليه السلام . ولو رجعت مرة أخرى للنص وقرأته بعد الشرح فإنك لا تشك أبداً بأنه تضمن البشارة العظمى بسيد المرسلين .