أما عن المحور الثاني من محاور علامات الساعة ..
* الرؤى والمنامات ..
نلحظ أن الرؤى والمنامات قد دخلت بقوة في موضوع علامات الساعة ، والناظر لكتاب الله يجد أنه عظم من شأن الرؤية في مواضع كثيرة يكفي أن سورة كبيرة في القرآن الكريم قد قامت كلها على موضوع الرؤى .
كذلك نلحظ أن النبي عليه السلام كان يتعاطى مع مسألة الرؤى باهتمام كبير جداً حتى مع وجود الوحي العام ، وبين أنها جزء من النبوة في إظهارها للأمور الغيبية ، وهذا أمر فصلته في مقالين سابقين .
بل في مسألة علامات الساعة نجد أن النبي عليه السلام قد جعل حظاً للرؤية في أحاديث كثيرة منها قوله عليه السلام : (لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا وما المبشرات قال الرؤيا الصالحة ) [ صحيح البخاري ] وفي رواية أخرى ترشد أنه قال هذه العبارة في مرض موته ، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كشف الستارة ورأسه معصوب في مرضه الذي مات فيه والناس صفوف خلف أبي بكر فقال : ( يا أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ) [ النسائي وأبو داود وغيره ]
فالحديث يرشد إلى أن النبي عليه السلام كأنه يوجه الأمة للاسترشاد والانتفاع من مسألة الرؤى بعده فيما تكشفه من أمور غيبية ، وقوله هذا الكلام في مرضه الذي مات فيه كأنه أشبه بالوصية للأمة ، فالمريض في مرض الموت لا يتكلم إلا في أهم الأمور كوصايا من بعده ، وهذا شأن الحبيب عليه أفضل صلاة وأتم تسليم .
أما قول النبي المبشرات فهذا من باب التغليب ، وإلا فإن الرؤية يأتي فيها منذرات ، لكن حتى المنذرات تكون في حق المؤمن مبشرة له بأنه محظ عناية السماء وتحذيرها فهي بشرى له بخصوصيته لكي يتوقى ويحذر .
واعتبار الرؤية من النبوة ، فلأن معنى النبوة هو الإنباء بالأمور المغيبة ، وهذا الباب انتهى بانتهاء الوحي ولم يبق منه إلا جانب واحد وهو الرؤية الصالحة .
وفي حديث آخر ربط بين بين الرؤية وآخر الزمان ، يقول النبي عليه السلام : (إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ تَكْذِبُ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ ،وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ ، وَمَا كَانَ مِنْ النُّبُوَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَكْذِبُ) رواه البخاري (7017) ، ومسلم ( 2263 ( .
ففي هذا الحديث عدة إشارات مهمة جداً ، وهي أن الرؤيا تكون أكثر صدقاً وملامسة للواقع في آخر الزمان ، فكذب الرؤيا وصدقها مرتبط بمدى تحققها على أرض الواقع .
وقد بين النبي عليه السلام أن الرؤية جزء من النبوة في إخبارها عن المغيبات والغيبيات ، والنبوة لا تكذب في أخبارها .
أما اقتراب الزمان هنا فله عدة دلالات منها إنه إشارة إلى آخر الزمان حيث تقترب الساعة نفسها ، أو هو إشارة للعلامة التي أخبر عنها النبي أنها من علامات الساعة وهي تقارب الزمان حتى يكون الأسبوع كيوم .. أو هي إشارة إلى تقارب المسافات كما هو الحاصل في زماننا حيث أن ما يقطعه الإنسان من مسافات في شهر في الماضي أصبح يقطعه خلال ساعة أو يوم بفضل تطور وسائل النقل ..
وعلى وجه العموم يظهر أن الزمان المقصود بهذا الحديث هو هذا الزمان الذي نعيشه ، أما لماذا لا تكذب رؤيا المؤمن ، فلأنه في ذلك الزمان تكثر الفتن والظلمات وتبعد المسافة والأمد بين المؤمن وبين عهد النبوة ، ويقل النصير له ، فيعوض على ذلك بأن يبقى لديه إشارة من الغيب الصادق عبر الرؤى والأحلام .
لكن في الحديث يشترط أن يكون صاحب الرؤية مؤمناً ، أي ليس فاسقاً أو مارقاً من الدين بأي وجه من الوجوه .. والإيمان يقتضي التصديق من الدرجة الأولى ، لذا أصدقهم حديثاً هو أصدقهم رؤيا.
فهذه الأحاديث وغيرها ترشد إلى أهمية الرؤية وأثرها في تبشير المؤمن وتثبيته على الحق في آخر الزمان ، بل تكون الرؤية هي خيط السماء الممدود إلى قيام الساعة .
بل نلحظ أن باب الرؤى والمنامات خاصة في السنوات العشر الأخيرة قد انفتح بشكل ملفت خاصة في الرؤى العامة ، لكن في نفس الوقت كثر الدجل والتدليس والوهم في هذا الباب بالذات لدرجة تكاد تفسده أو تحرمنا من الاستفادة الحقيقية من خيط السماء الممدود .
هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى نجد أن علم التأويل الذي يعتبر من أعمق العلوم وأبعدها منالاً( فهو من علم الأنبياء ) قد أصبح الجميع يخوض بسطحية وجهل ، في ظل جمهور أصبح جله أو أغلبه لا يميز بين الحق والباطل ، وبين العلم المضبوط أو الشطحات التي لا ضابط لها ، فهذا كله عمق من المشكلة أكثر من كونه يساهم في حلها ، وبصدق هالني كثيراً تلك الشطحات الكثيرة التي يتخوض فيها الكثير من المتأولين بغير علم ، وهالني أكثر أن سوقهم رائج أكثر من أهل العلم بهذا الباب ، وهذا الأمر للأسف علامة من علامات الساعة حيث يُطلب العلم عند الأصاغر ، وأصبح من قرأ زمرة أحاديث أو آثار يتصدى للعلم وهو أبعد الناس عن العلم الحقيقي ... هذا شأنهم .
أنا هنا سأناقش قضية جوهرية في مسألة الرؤى وهي أن الرؤية أولاً تتأثر بصاحبها وطريقة تفكيره ، وأن جزء حيوي من الأحلام المطروحة لا تعدو حديث نفس أو أضغاث أحلام .. أما الرؤى المطبوعة من عالم الغيب فهي نزر قليل قياساً لهذا الكم الهائل من الأوهام .
وهنا لا بد من بيان أقسام الرؤى أو الأحلام ، فنحن عندنا أضغاث الأحلام ، والأضغاث جمع ضغث ، والضغث هو تلك المجموعة من الحشائش اليابسة والرطبة والمتنوعة الأصول بحيث لا رابط بينها ، هذه عندما تقبضها بيدك نسميها ضغث .. أي هي مجموعة من الأمور الصغيرة التي لا رابط بينها .
فعقل الإنسان العجيب يتأثر بأمور كثيرة بعضها نفسي وبعضها اجتماعي وبعضها فسيولوجي ، وبعضها من العقل الباطن ، هذه كلها تفرغ خلال النوم على شكل أحلام تتضمن جزئيات لا رابط بينها هذه نسميها أضغاث أحلام .. وتمييزها يحتاج خبرة خاصة .
بأذكر رؤية قرأتها لإحدى النساء التي سوقتها على أنها عامة ، وعندما نظرت للحلم عرفت أنه رسالة فسيولوجية ترشد إلى أن صاحبتها قد ارتفع عندها الكوليسترول ، لأن الرؤية كان فيها مقطع لاسم دواء يتعلق بهذا المرض .. توضع هذه الرؤية وتجد المؤولين يسرحون ويمرحون بها وكأنها رؤية عامة وهي في حقيقتها حلم فسيولوجي لا علاقة له بكل أوهامهم وتهويلاتهم .
أحياناً تكون تنفيسات من واقع الحياة ضمن حديث النفس ، وهذه التنفيسات تأخذ رمزيات معينة في المنام ، يظنها البعض أنها رؤى ترشد إلى قضايا خاصة أو عامة .
وفي ذات السياق يدخل الشيطان الذي له وحيه الخاص ومدخله الخاص في المنامات ، وللشيطان سوقه الواسع خاصة عند أولئك المهووسين في مسألة المهدي والأحلام .. هنا يقوم الشيطان باستغلالهم بطريقة واسعة جداً ، بعضها قد يكون أجزاء من المغيبات وليس الغيبيات ، فيظن صاحب المنام أنه الحق وأن رؤاه كشفت غيباً ، وأن رؤيته تحققت مثل فلق الصبح ... بل أشعر أن عالم الشيطان وإبليس ومنظومته لها باع كبير في كثير من التوجيهات والأحلام لتمرير أفكار شيطانية . وهذا النوع من الأحلام وتمييز المغيب عن الغيبي يحتاج لخبرة خاصة جداً ، تحاول أن تنبه البعض لكن دون فائدة ولا تجد أمامك إلا قول الله (قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِيخَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) .
للأسف كم وقعت فتن في هذا الباب وكم وقع تشتيت للكثيرين وفتنة للبعض بسبب عدم فهم هذه الأصول ، وكم تم تهويل أمور في حق أناس بعيدة عن الحق والحقيقة .
لكن بالرغم من كل هذه المحاذير إلا أن هذا الأمر لا يلغي أهمية هذا العلم ، ولا يؤثر على كم لا بأس به من الرؤى التي ثبت صدقها في ذاتيتها ومصداقيتها في أرض الواقع .. فالرؤى المطبوعة واضحة لكل ذي علم .
بل أقول من تجربتي الخاصة أنه بالرغم من كل هذا التشويش والتدليس والأوهام الحاصل في عالم الرؤى إلا أن هناك مجموعة حيوية من الرؤى المطبوعة من عالم الغيب تحمل معاني رائعة جداً ومدلولات راقية جداً توحي لك بقوة عن مدى مصداقية هذه الرؤى ومدى ما تحمله من علم غزير كشف لنا الكثير في هذا الزمان .