ومن هذه السنن الإلهية سنة الاختيار ... هذه السنة التي أعيى فهمها العقول القاصرة ؛ حيث يزنون الأمور وفق موازين وهمية لا قيمة لها في الميزان الإلهي ومن هذا الوجه جاء القرآن الكريم والسنة النبوية لكشف قوانين هذه السنة وضوابطها والتي يمكن إبرازها في العناوين التالية :
1- سنة الاختيار هي لله سبحانه وتعالى الحكيم الخبير ، ولم يترك أمرها لعقول البشر القاصرة ولموازينهم الفاسدة ؛ فصاحب الخلق والعالم به هو صاحب الاختيار يقول الله سبحانه وتعالى : {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }القصص68 فالله هو الخالق وهو يختار من خلقه ما يشاء ، ولا مجال للاختيار لأحد من خلقه ، لأن موازين الخلق محكومة بالعقل والحواس القاصرة و يغلب عليها الأوهام والأهواء ، ومثل هذه الأحوال لا تصلح محلاً للاختيار .
2- اختيار البشر دائماً مبني على موازين وهمية وهذا واضح ؛ حيث تنظر للتفاضل بالمظاهر على حساب الجوهر ، ومن هذا الوجه محل نظر الله مخالف لمحل نظر البشر وقد أرشد إلى ذلك قوله عليه السلام : «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» [ أخرجه مسلم ] ، وإلا لو ترك الاختيار للبشر لما رحم البشر بغياً سقت كلباً ، ولا قاتل متمرس في القتل أراد أن يتوب . حتى المؤمنون أحكامهم واختيارهم يكون وفق الظاهر ؛ لذا أراد النبي عليه السلام أن يعلمهم درساً في سنن الاختيار ، فقد مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟» قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ، قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، فَقَالَ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟» قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْتَمَعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا» ([1]) ، وهذا المعنى من الاختيار أشار له النبي عليه السلام مرة أخرى بقوله : «رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» «رُبَّ أَشْعَثَ، مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ» ([2]) ؛ هذه الأحاديث صريحة في أن اختيار الله مغاير تماماً لاختيار البشر وموازينهم .
3- اختيار الأنبياء وأتباعهم أيضاً كان مغايراً لموازين البشر ففي حق محمد عليه السلام رأى الوليد بن المغيرة لمركزه الاجتماعي أنه أولى من النبي عليه السلام فقال : {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }الزخرف31 ، وهنا جاء القول بصيغة الجمع للإشارة إلى أن هذا من الموازين التي اعتمدها أهلها ويقصدون بالرجل العظيم الوليد بن المغيرة ... كذلك موسى عليه السلام كان في فصاحته وكلامه مشكلة في مجتمع يعتمد من الدرجة الأولى على البيان والكلام .. لكنه كان محل اختيار الله .. بل هو الوحيد الذي أخذ صفة كليم الله ، يقول الله سبحانه وتعالى : { وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً }النساء164 ، حتى اختيار الأتباع يكون بغير معهود البشر وموازينهم ؛ لذا كان الضعفاء هم الأولى بالاختيار عند الله فكان آل ياسر و بلال وخباب وغيرهم هم جذوة الرسالة الأولى ،وهذه سنة الله من لدن نوح عليه السلام الذي اعترض كفار زمانه على هذه السنة بقولهم : {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ }هود27.
4- تعتبر قصة طالوت درساً حيوياً يبرز أن سنن الاختيار لا تخضع لموازين البشر ، بل هي من الله سبحانه وتعالى فعندما طلب بنو إسرائيل من نبيهم أن يختار لهم ملكاً ليقاتلوا في سبيل الله وليخرجوا من حالة الذلة التي هم فيها كان الاختيار بعكس المعهود والموازين المتصورة لكل بني إسرائيل ؛ حيث وقع الاختيار على شاب طويل قوي الجسم لكنه من العوام وليس من سبط الملك ولا سبط النبوة ( بنو يهودا وبنوا لاوي ) ولا هو من علية القوم ولا من أهل الغنى والترف والمركز ، ولا من أهل الكهنوت في زمانهم ؛ حيث كان من سبط بنيامين أضعف أسباط بني إسرائيل وأقلها مركزاً اجتماعياً ؛ لذا جاء الانكار على النبي هذا الاختيار يقول الله سبحانه وتعالى : (َقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ{247} وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{248} فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ{249} وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ{250} [ البقرة . هذه الآيات ترشد إلى سنة الاختيار ثم الاختيار من خلال الجمع العشوائي ، الاختيار الأول كان لطالوت بعكس تصورات وموازين من حوله ، الاختيار الثاني من خلال الممحصات والابتلاءات التي استخلصت الصفوة من بني إسرائيل ليقودوا معركتهم مع جالوت ... والاختيار الثالث هو من خلال فتى في مقتبل عمره أكرمه الله بقتل جالوت ثم كان الخليفة الأول في الأرض وهو داود عليه السلام ... إنها سنن عجيبة وقد تتكرر .