سنن اللحظة الأخيرة

أضيف بتاريخ 06/22/2024
Aysha Møhammêd


الله هو الحق المطلق صاحب القوة الحقيقية ، وهو الحليم الغفور ، قدر الابتلاء في الأرض من باب التمحيص والاختبار للإنسان في دار العمل ... وحلم الله سبحانه وتعالى لا يعني إغفاله للبشرية وحاشاه وهو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ... لذا يكون التذكير والإمهال ... ثم تكون اللحظة الأخيرة التي تحمل في سننها المعاني الكثيرة .
في هذه المقالة أتناول اللحظات الأخيرة للأمم السابقة كما يصورها القرآن الكريم ، ثم أعرج للحظة الأخيرة المتصورة لعصرنا بإذن الله .
 
وقبل الشروع في الأمر أذكر أننا سنجد أن كل أمة استدرجت في لحظاتها الأخيرة بطريقة قد تكون مغايرة لأختها وفي كلها تتجلى عظمة الله وحكمته وقدرته .. وهذه مقالة مستعجلة لبيان الأمر ... وإن كانت تحتاج لتفصيل سنني طويل نلاحق فيه كل الدلالات ، لكن المدونة لا تحتمل ملاحقة كل التفاصيل السننية .. لذا هي مقالة فقط من باب التذكير .
عندنا في القرآن الكريم ذكر الله مصارع أقوام متعددة ، تنوعت فيه اللحظات الأخيرة لكل أمة بما يمكن تفصيله في التالي :
 

أولاً : قوم نوح عليه السلام والاستهزاء الأخير المشوب بالطمانينة  .

ذكر النبي نوح عليه السلام قومه 950 عام ، وكان بأعلى درجات الحكمة والحرص والعقلانية في تذكيره لهم ، لكن طغيان قومه جعلهم ينعتوه بالسحر والجنون والسفاهة ... وهم يعلمون في كوامن أنفسهم أنه ليس كذلك ...
لذا جاءت اللحظة الأخيرة لتعمق طغيانهم واستهزائهم بنبيهم لتكتمل عليهم الحجة .
 
فكان قدر الله لنوح عليه السلام بأن يبني سفينة في الصحراء أو البر بعيدة جداً عن أي مصدر مائي يمكن أن تجري فيه هذه السفينة ...
وهذا أمر عجيب وعند أصحاب النوايا السيئة مدعاة وفرصة قوية للسخرية والاستهزاء ، وهذا ما حصل بالفعل .. وكأن هذا الحدث قد أعطى لقوم نوح فرصتهم الذهبية ليؤكدوا على فريتهم بأن نوحاً عليه السلام مجنون ..
 
وكأن لسان حالهم يقول : ألم نقل لكم أنه مجنون .. انظروا إليه هل هناك جنون أعظم من أن يبني سفينة في البر .. كأنه يريد أن تبحر فيه في السوافي ... لحظة سخرية ولحظة طغيان وطمأنينة ...
عبر عنها القرآن الكريم بقوله :  {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ }هود38
 
الفعل حقاً لمن أغرق نفسه في عالم المشاهدة ونسي الله هو فعل يدعو للسخرية ، لكن عند أهل الله القائمين على أمره الموقنين بوعده هو طوق النجاة للحظة الأخيرة .
هذا درس يبرز لنا أن اللحظة الأخيرة قد يرشد الله لها بعض الناس ليقوموا بأعمال تحصينية لها وتكون مدعاة استهزاء ممن أغرقوا أنفسهم بالواقع والمشاهدة .
وهذا الحدث كان إمعاناً في استدراج القوم وبث الطمأنينة والثقة فيما دعواهم الباطلة حتى تم مفاجأتهم بالأمر ... لكن هذا الموقف بالذات يشعرنا أن بعض أشكال العقوبة قد تحتاج لإعداد مسبق مكشوف لها للجميع .
 
لكن الخلاصة : أن اللحظة الأخيرة لقوم نوح كانت لحظة استهزاء المشوب بالثقة والطمأنينة مع التسفيه العميق لأهل الله .
 

ثانياً : لحظة فرح واستبشار .

 
وهذا كان قدر قوم عاد من الدرجة الأولى ؛ حيث حرمهم الله المطر مدة من الزمن ، ثم جاءتهم غيمة سوداء توحي لهم بأنها مليئة بالخير والمطر .. وجعلها الله تستقبل أوديتهم مما جعلهم يخرجون من تحصيناتهم الجبلية لكي يهيئوا مزارعهم لهذا الخير العظيم ... يقول الله سبحانه وتعالى : {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ }الأحقاف24
 
اللحظة الأخيرة كانت مصيدة لهم بكل ما تحمل الكلمة من معنى ، وجاءهم ما يوعدون فيما به يستبشرون ... ما أعجب أمر الله .
وفي سياق قصة قوم عاد تأتي اللحظة الأخيرة لقوم لوط عليه السلام ، فهم كانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء .. بما يعرف بالشذوذ والمثلية ... لذا كانت اللحظة الأخيرة لهم عجيبة جداً ... فقد أرسل الله ملائكة على هيئة شباب جميلي الصورة ضيوفاً على لوط عليه السلام ...
 
ومثل هذا الصيد الثمين هو ما ينتظره قوم لوط .. فهذه فرصتهم وبغيتهم ... لذا جاء توصيف اللحظة الأخيرة في قوله تعالى : {وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَـؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ }هود78 ( وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ{67} قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ{68} [ الحجر ] (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ{37} [ القمر ]
 
هذا توصيف اللحظة الأخيرة : هرع بكل ما تحمل الكلمة من دلالات الفرح واللهفة على هذا الصيد الثمين .. استبشار بفرصة ثمينة سنحت لهم من حيث لا يعلمون .. مراودة على الفاحشة وانتهاك بيت النبي ومحاولة هتك ضيفه ...
اللحظة الأخيرة ... ومعها العذاب الأليم بأشكال متعددة : رجم من السماء ، قلب الأرض من تحتهم ... إنه غضب رباني بحجم جرمهم .
 
وفي نفس سياق قصتي  عاد وقوم لوط  هناك سنة ماضية في أمم كثيرة بنفس الدلالة أرشد له قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ{42} فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ{43} فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ{44} ) [ سورة الأنعام ]
 
هذه الآيات قاصمة .. إنها تحكي قصة لا يخلو منها زمان ... رسائل الله للأمم كثيرة ، بعضها بشري وبعضها كوني : البأساء والضراء ... والأصل من هذه الرسائل أن تدعوا الناس للتضرع لله ...
لكن النتيجة كانت مغايرة .. القسوة والسير في طريق الشيطان والإمعان في الباطل ... تذكير بالله .. ثم تناسي ونسيان كل شيء تم تذكيرهم به ... عندها تفتح الأبواب ، وأبواب كل شيء لتكون اللحظات الأخيرة هي لحظات فرح وطغيان ونسيان لكل كلمات الحق التي سمعوها ...
ومع الفرح يأتي العذاب بغتة وبطريقة مفاجئة لم تخطر ببالهم ليخرجوا من دار العمل نحو دار الحساب .
 

ثالثاً : إدراك العذاب والتوجس منه مع جهالة طبيعته وكنهه .

 
وهذه حالة خاصة للحظة الأخيرة كانت من نصيب قوم تمود ، فهؤلاء عاينوا آية عظيمة لنبيهم وهي الناقة ، ولكنهم عقروها فجاءهم التهديد من نبيهم أن موعدهم ثلاثة أيام ثم العذاب .. {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ }هود65
هؤلاء القوم كانوا يتصورون مصداقية كلمات النبي لكن لم يكن عندهم تصور لكيفية العذاب ، ويحتمل أنهم وضعوا لأنفسهم كل الاحتياطات ، فجاءت العقوبة بعكس كل احتياطاتهم ... إنها الصيحة العقوبة التي لا تخطر على بال أحد منهم .
 
لكن نتعلم من هذه السنة أن هناك حالات يكون فيها بيان لتوقيت اللحظة الأخيرة مع جهل كنهها الحقيقي .