هذه المقالة الثانية في سلسلة : سنن اللحظة الأخيرة
موضوع سنن اللحظة الأخيرة يعتبر من المواضيع القرآنية الحيوية ، يكفي أن الله العزيز الحكيم قد تناولها في كتابه بإسهاب ، لم أقم بإحصاء للآيات المتعلقة بهذه السنن ، لكن في نظري أن الآيات التي تتحدث عن اللحظة الأخيرة قد تجاوزت المائة آية في كتاب الله بما يوحي بعظمة وضرورة استقصاء هذا المعنى الحيوي الذي أطال القرآن الكريم في بيان كامل تفاصيله وأحواله .
بل هذا التفصيل الواسع لهذا الموضوع يشعرك بأنه يحمل بين طياته أسراراً كثيرة جداً الأحرى بالمسلم ألا يغفلها ... وإغفاله لها معناه إغفال جزء حيوي من كتاب الله سبحانه وتعالى ...
وهذه المقالات المستعجلة إنما تعطي إشارات سريعة لهذا الموضوع الهام ، وإلا الموضوع أكبر بكثير من أن تحوي دلالاته صفحات قليلة .
لكن جهد المقل أفضل من لا شيء ، ورائحة البر ولا عدمه ... في مقالتي السابقة تناولت ثلاثة أشكال من سنن اللحظة الأخيرة وهنا أكمل هذه الأشكال ، وإن كان بعض ما اطرحه تقليدياً فهو مهم جداً عند حديثي عن سنن اللحظة الأخيرة في عصرنا الحاضر ، وهنا أتناول الشكل الرابع لهذه السنن بما يلي :
رابعاً : استدراج واستحقار واستيئاس .
هذه حالة مركبة للحظة الأخيرة وأرى أن أنسب مدلول لها حالة فرعون في لحظاته الأخيرة ... فقد تميزت مرحلة فرعون بأنهم عاينوا الآيات الكثيرة قبل اللحظة الأخرة وكانت كل آية أكبر من أختها ( الطوفان – الجراد – الدم – العصا والحية - اليد البيضاء – القمل – الضفادع )
وقد بين القرآن الكريم أنها تسع آيات بينات واضحات .
إذا فرعون وقومه عاينوا القدرة والعظمة الإلهية في مواقف متعددة ، وقد كان هدف الآيات هو التشديد عليه ليرسل بني إسرائيل ، وقد صرحوا بذلك يقول الله سبحانه وتعالى : {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ }الأعراف134
وانتهى الأمر بإرساله بني إسرائيل ... لكن ماذا حصل ؟ كان الموضوع متعلق بعبادة بالنسبة لبني إسرائيل واتجاه العبادة في ظن فرعون إلى البرية نحو طريق معين ، لكن موسى وقومه سلكوا طريقاً آخر .
هنا بدأ الاستدراج لفرعون حتى بالرغم من معاينته لقوة عجيبة جداً خلف موسى عليه السلام ... ومع الاستدراج جاءت الاستهانة والاستحقار فهذه هي اللحظة الأخيرة لفرعون يقول الله سبحانه وتعالى موصفاً الحدث : (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ{53} إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ{54} وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ{55} وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ{56} فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ{57} وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ{58} ) [ الشعراء ]
هذه الآيات تحكي نفسية اللحظة الأخيرة وهي تبرز مدى احتقار فرعون لموسى ومن معه حتى أسماهم (شرذمة قليلون) ... لكن أيضاً الآيات توحي أنه قال ذلك تصبراً وتشجيعاً لقومه لمواجهتهم خاصة بعدما عاينوا الآيات ؛ لذا طلب من الجميع القدوم للمواجهة معهم وإنا لجميع حاذرون .
لكن اللحظة الأخيرة كانت قمة في العجب والتدبير الإلهي العظيم ... فقد سار موسى وبني إسرائيل في مناطق غير معهودة لهم وفي الليلة الأخيرة جاءه الوحي بالسير ليلاً لأن فرعون يتبعه ... يقول الله سبحانه وتعالى : {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ }الدخان23
بدأ السير ليلاً ... ومع انبلاج الفجر وشروق الشمس تبين لبني إسرائيل أنهم وقعوا في مصيدة تبرزها سورة الشعراء بقوله تعالى : ( فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ{60} فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ{61} قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ{62} فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ{63} وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ{64} وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ{65} ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ{66} [ الشعراء ]
فاللحظة الأخيرة كانت لحظة استيئاس من أهل الله أنفسهم ... لكن ما الذي حصل ... مع شروق الشمس بدأت تستبين معالم المكان الذي يسير فيه بنو إسرائيل ، فوجدوا أن البحر الكبير يحدهم من جهة ... ولسان بحر كبير يحدهم من أمامهم .. أما الجهة الثالثة فكانت منطقة جبلية وعرة جداً ... أما الجهة الرابعة الوحيدة فعندما نظروا فيها وجدوا فرعون وجنوده يتطاير غبارهم قادمين نحوهم ...
هنا عندما انبلج الصباح واستبان مسرح الحدث تبين لبني إسرائيل أنهم وقعوا في مصيدة لا مجال للهروب منها وهذه حالة استيئاس وضحها قوله تعالى ( إنا لمدركون ) ... وهم لا يعلمون أن هذا الإلجاء الرباني لهم لهذا المكان الذي حمل في ظاهره معاني اليأس هو نفسه اللحظة الأخيرة التي تحمل معنى الانتصار العظيم ... فكانت قصة غرق فرعون .
وأذكر أنه مر علي قصة قد تكون من الإسرائيليات والله أعلم بصحة مدلولها وفيها أن فرعون عندما عاين شق البحر وهذه المياه المعلقة في الجو كالجبال على غير المعهود شعر بخوف شديد .. لكنه حاول استغلال الحدث لنفسه فقال من باب الدعاية الكاذبة وقلب الحقائق لجنوده ..
انظروا كيف انفتح البحر لأجلي .. ولم يكن عنده استعداد لدخول لجة هذا الماء خاصة أنه عاين الآيات قبل ذلك .. فأرسل الله له جبريل على فرسل حائل فهيجت حصان فرعون فلحقها دون إرادة من فرعون وتبع الجنود قائدهم فكانت المصيدة .
عموماً قصة جبريل وفرعون هذه الله أعلم بمصداقيتها ، ويكفينا دلالات القرآن .. لكنني أتصور حصولها لمعرفتي أن من عاين الآيات لن يغامر بنفسه في اللحظة الأخيرة .. لكنه لا يعلم أنه حتى لا يملك نفسه إذا أراد الله بها سوءاً .
إذا اللحظة الأخيرة من فرعون وقومه تميزت بثلاث معاني حيوية : استدراج إلهي نحو الهدف .. الإمعان في استحقار أهل الله بالنظر للموازين الأرضية فقط .. استيئاس من أهل الله في اللحظة الأخيرة والشعور بالإحباط والإحاطة بهم لإنهائهم .
و سنن اللحظة الأخيرة مع فرعون تكررت بنفس التوصيف مع محمد عليه السلام وقريش لكن مع اختلاف في التفاصيل .
فالمعلوم أن قريش ضيقت على النبي عليه السلام وصحابته .. وجاءهم عدة إنذارات إلهية منها في سورة القمر .. ( سيهلك الجمع ويولون الدبر ) لكنه إنذار كان غريباً وغير مفهوم حتى على بعض الصحابة لأنه مغاير لدلالة الواقع .
لكن جاء الإنذار الأخير المرتبط بقانون سنني ... وهو نتائج إخراج نبي من أرضه يقول الله سبحانه وتعالى : ( وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً{76} سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً{77} [ الإسراء ]
القليل هنا كان سنتان تحقق ببدر ، والآية تتحدث عن قانون لا يتبدل وهو أن التآمر على نبي وإخراجه من أرضه يترتب عليه هلاك القائمين بذلك بعد مدة قليلة .
وهذا الحدث أيضاً تم فيه استدارج الفئتين من حيث لا يعلمون أو يريدون ، يقول الله سبحانه وتعالى : {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ }الأنفال5
وكانت قصة القافلة التي استدرجت الموعودين نحو الهدف وكانت اللحظة الأخيرة التي تميزت بالاستحقار كما يبرزه قوله تعالى : (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ }الأنفال44 وتقليل المؤمنين في أعين كفار قريش ترتب عليه الإمعان في الاستحقار ... كذلك اللحظة الأخيرة
كانت تحمل معنى البطر والرياء ، يقول الله سبحانه وتعالى : {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }الأنفال47 حيث قالوا لا نرجع حتى نشرب الخمر وننحر الجزور وتضرب علينا القيان ببدر فيتسامع بذلك الناس .
فهذه اللحظة الأخيرة التي تحمل معنى الاستحقار والكبر والرياء ، وفي طياتها الاستدراج الرباني لصناديد قريش نحو الهدف كما استدرج فرعون من قبل .
وهذا الموقف نفسه سيتكرر مرة أخرى في آخر الزمان مع جيش الخسف ، الذي يقصد مكة نحو أولئك القوم الضعفاء الذين لا منعة أو قوة لهم ( الشرذمة القليلون ) فيستدرج لهم جيش من الشمال ويؤخذوا من مكان قريب أي من تحتهم حيث يخسف بأولهم وآخرهم .
هذه ثلاثة مواقف فارقة من اللحظة الأخيرة ... الفرقان الأول كان لفرعون وموسى عليه السلام ...
وهذا اليوم سمي بيوم الفصح بمعنى انه اليوم الذي فصح وراق لبني إسرائيل حيث رأوا بأعينهم هلاك عدوهم وهو من فصاحة الشيء ووضوحه ... والفرقان الثاني سمي بيوم الفرقان وهو كان ببدر .. والفرقان الثالث هو يوم الخسف ، وهو فرقان يبرز أن العائدين في حرم الله هم على الحق ؛ لذا بعد الخسف تتحرك كل طاقات الأمة من كل الجهات لبيعة العائد في مكة .
وهذه الفراقين الثلاثة تخضع لذات السنن التي تحكم اللحظة الأخيرة لمصارع هؤلاء