سنن اللحظة الأخيرة

أضيف بتاريخ 06/22/2024
Aysha Møhammêd


نكمل سلسلة اللحظة الأخيرة حيث بينت أربعة أشكال وهنا أذكر الشكل الخامس وهو يتعلق بعقوبة فردية هي سنة المترفين في الأرض وذلك على النحو التالي :
خامساً : التمحور حول المطلق الإنساني والاجتهاد في فتن الناس .
 
سنن اللحظة الأخيرة هنا سأتناول فيها جانب المترفين وهي لا تتحدث عن هلاك قوم بل عن هلاك رجل من المترفين ... وهو قارون الذي كان من قوم موسى فبغى عليهم .
وقد جاءت الآيات لتبين لنا المواقف الأخيرة لهذا الرجل ، والتي تبرز جانباً من طغيان أهل المال وبغيهم ثم حرصهم على إفساد قلوب الناس وفتنتهم .
 
فهذا الرجل تمحور حول ذاته حيث اعتبر أن هذه الكنوز العظيمة لا علاقة لله بها بل هي من كسبه واجتهاده وقدراته الخاصة ... يقول الله سبحانه وتعالى : (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ{78} [ القصص ]
فهذه الآية تبرز أن هذا المترف تمحور حول ذاته باعتبارها مطلقاً لا يحتاج لعون السماء وهذا معنى قوله تعالى ( كلا إن الإنسان ليطغى ) حيث يعظم الإنسان قدراته و يغتر بتعاطي الأسباب معه ..
فينسى الله ويخرجه من حساباته ولا يرى له أي فضل له عليه ... وهذا الموقف ذاته الذي وقع به الإنسان الغربي المعاصر عندما أخرج الله من حساباته واعتبر أن تعاطي الأسباب معه إنما هو من علمه واجتهاده ولا حاجة له بالله أو عونه في رحلته في الحياة ... وهذه الحالة هي من أعظم السنن الماحقة .
 
لكن في حق المترفين السنة الموجبة للحظة الأخيرة هي حين يتوجه المترف بما لديه نحو فتن الناس بما آتاه الله من مال ... وهذا المعنى عبر عنه الله سبحانه وتعالى بقوله : (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ{79} [ القصص ]
هنا الفتنة حيث أن الخروج بالزينة كان يقصد بها فتن العباد وتوجيه قلوب الناس نحوه ليسلكوا نهجه أو يتمنوا حاله ، أو يربطوا بين طغيانه وبين العطاء العظيم الذي بين يديه .
والخروج بالزينة أصبحت منهجاً و تعتبر في عصرنا الحاضر  من أوضح سنن المترفين بقصد فتن العباد  .... وتعتبر هذه السنة من أعظم الأسباب الموجبة للعقوبة القارونية ...
ومن هنا لا نستعجب من اتباع أكثر المترفين في عصرنا نهج قارون لأنها السنن ... والخروج بالزينة وكشفها للناس هو سنة يومية ... فزوجة فلان المليونير اشترت فستاناً بأكثر من مليون دولار ... وفلان أقام حفلة بملايين الدولارات , وهذه اشترت حذاءً بقرابة النصف مليون دولار ...
وهذا له طائرة مصنوعة من الذهب ... وذاك صمم فيلاً بعشرات ملايين الدولارات .. وهذا اشترى حصاناً باثنى عشر مليون دولار ... وهذه اشترت لوحة بمائة وتسعين مليون دولار ... وهذا أحيا ليلة بنصف مليون .. وهذه لها سيارة خاصة صنعتها الشركة خصيصاً لها وهي تكلف مئات الألوف ..
وهذا أهدى لفلانة هدية تعادل عدة ملايين من الدولارات ... بل وأنا أكتب هذه الكلمات قرأت بعض القصص المخزية لبعض المترفين في الصحف الألكترونية أستحي أن أطرحها هنا ..  إنها قصص في ظل محيط واسع من الفقراء والمعوزين ...  
 
 قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }القصص79 فأصبح قارون سلفاً لألف قارون في زمانناً يسيرون في خطاه ويتتبعون نهجه .
إنها أخبار نقرأها كل يوم للإشارة إلى حالات من الإنفاق والترف اللامعقول ... إنها الخروج على القوم بزينتهم ليفتنوا قلوب العباد ... ونجد للفنانين والفنانات النصيب الأكبر من الخروج بالزينة مع المترفين ...
 وأصبحنا الآن لا نقف أمام انسان غني ، بل مترف بدأ يظهر شكلاً من الإغراق في الزينة للفت الأنظار إليه وما لذلك من أثر وفتنة للقلوب .
 
ووجود هذه السنة بهذا الشكل منذر بالعذاب كما صرحت سورة الإسراء بقوله تعالى : ({وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً }الإسراء16
فهي من جهة سنة هلاك ومن جهة أخرى مرشدة إلى سنن اللحظة الأخيرة .. فعندما ترى المترفين قد سخروا كل ما لديهم من أموال في قنوات فساد وإفساد وفسق ومجون ونشر أباطيل ... وحرص على سماع أخبار ترفهم فاعلم أنك تعيش سنن اللحظة الأخيرة للمترفين  .
 

* الخلاصة :

قارون رجل مترف حصل على مال كثير ، هذا المال جعله يحول نفسه إلى مطلق ذاتي يستغني عن غيره ، لذا عندما نسب الصالحين نعمة قارون لله مع ضرورة أداء شكرها
تمحور حول ذاته بنهج استغنائي ( إنما أوتيته على علم عندي ) وهذا هو قمة العلو في الأرض ؛ حيث يتمحور الإنسان حول ذاته ناسياً الله وناسباً كل نعمة لجهده وكسبه بعيداً عن الله ( كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ) فهو استغناء عن الله والتمحور حول الذات الإنسانية كمطلق ذاتي يقابل فكرة الإله  ... وهذه الجريمة الأولى العظمى التي وقع فيها قارون وهي العلو .
 
أما الجريمة الثانية المؤذنة بالهلاك فهي الخروج على الناس بزينته بغرض فتنتهم وصرف قلوبهم نحوه ونحو الدنيا وحطامها ... وهذه الجريمة الثانية والتي نعايشها يومياً عبر وسائل الإعلام من أخبار المترفين وقصصهم اليومية التي تحكي إسرافاً مفرطاً ... وهذه الجريمة عبر عنها القرآن الكريم بالفساد .
وفي ختام قصة قارون بين الله حقيقة اللحظة الأخيرة بقوله تعالى : {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }القصص83
 
وهذا التعالي والاستغناء من قارون ناسب معه الحطم والانحطاط كعقوبة ؛ لذا كانت عقوبة الخسف التي تحمل معنى الدنو في طبقات الأرض  هي الأنسب لهذا المتعالي : {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ }القصص81

 

فهذه سنة المتعالين ... وقد تضمنت سورة القصص نوعين من العلو بغير الحق وهما علو فرعون وعلو قارون ... وهذا العلو ناسب معه ابتلاع البر والبحر لكليهما ؛ حيث ابتلع البر قارون وابتلع البحر فرعون .