الميزان والسنن الإلهية ( 2)

أضيف بتاريخ 06/11/2024
Aysha Møhammêd


يقول الله سبحانه وتعالى : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }الحديد25


هذه الآية تبرز أنه ما من رسول أُرسل ولا كتاب أنزل إلا لأجل إقامة الميزان والقسط ، ونلحظ في الآية أن الذي أُنزل أمران ( الكتاب والميزان ) ، والكتاب معروف والميزان هنا يراد به الأمر الشرعي الذي به يتحقق العدل بحيث تتساوى كفتا الميزان بين الحق والواجب في سياسة الناس ، عموماً الآية له أوجه عدة ودلالات كثيرة لا يتسع المقام هنا للإسهاب بها حتى لا يخرج الحديث عن السياق وقد أفرد دلالاتها المتعددة في مقالة خاصة .
لكن ما يمكن قوله هنا أن الميزان هنا حمل دلالة مشابهة لدلالة الميزان في سورة الرحمن لكن مع خصوص وعموم ، فآية سورة الرحمن تكلمت عن الميزان الذي يحكم السنن الكونية والشرعية والإلهية ، هنا الميزان يتحدث عن تنظيم علاقة الإنسان من خلال الأمر الشرعي المفضي لإحقاق الحق وإرساء العدل في الأرض بما يترتب عليه انسجام الميزان الكوني معه .


أما لماذا ذكر الميزان هنا كشيء مغاير للكتاب ، فالمراد به التخصيص والاهتمام فالكتب السماوية هي التي تبين الميزان الذي يجب أن يستقيم عليه البشر ، لكنه هنا أفرد وذكر بخصوصه للاهتمام بأمره لأنه وسيلة انتظام البشر .
إذا الميزان هنا هو تلك السنن والطرائق الشرعية الذي يجمعها الأمر الشرعي وهو جزء من السنن الإلهية وأكبر متفاعل ، وهذا الأمر الشرعي هو الذي يحقق استقامة أمر الإنسان بما يترتب أثره على استقامة الميزان الأكبر الذي تخضع له السنن الكونية والإلهية .
نأتي الآن لآية الشهود وهذه الآية تبرز قيومية الله على الميزان الأعظم بالقسط ، وهذه القيومية يكون حظ شهودها لأهل العلم يقول الله سبحانه وتعالى : {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }آل عمران18
هذه الآية تضمنت أعظم مشهود في الكون ، لذا أشهد الله عليه عدول الأرض والسماء ( الملائكة وأولو العلم ) فهم الأكثر شهوداً للتوحيد ، وأولو العلم الأكثر شهوداً لقيومية الله بالقسط فيما يتأملونه من حال الناس وحركة الإنسان والكون والحياة ؛ حيث يدركون موجبات البركة أو العقوبة وآثارهما فيما حولهما سواء على المستوى الفردي أو الجمعي ، والسبب أن أهل العلم هم الأكثر إدراكاً لحركة السنن الإلهية وعلاقتها بالسنن الكونية ، فهم يتعاملون مع قوانين صارمة يرونها بصفاء علمهم ، وتخفى على الناس إدراك العلاقة بين السبب والنتيجة والمسبب .


فالقسط في الآية السابقة هو الميزان وهي من كلمة قسطاس التي عربت من الرومية وتحمل معنى الميزان في اللغة العربية ، وقد أرشد الحديث النبوي لهذا المعنى بوضوح عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، فَقَالَ: ( " إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ – وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: النَّارُ – لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ". ) [ صحيح مسلم برقم 293 ]   
فهذا الحديث يشير إلى القيومية التي تضمنها بداية الحديث ( لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ) ويشير إلى الميزان من خلال خفض القسط ورفعه ، حيث يرفع أقواماً ويضع آخرين ، يرزق أقواماً ويحجب الرزق عن الآخرين ، وقد ارتبط الميزان بحركة الإنسان وأعماله من خلال عمل الليل والنهار , بحيث تكون معاملة الرب للعبد متعلقة ضمن سببية وسننية بعلاقة العبد بالرب ، وطبيعة أعماله التي يرفعها للسماء في الليل والنهار .


فالآية والحديث يبرزان بدقة عظمة الميزان وتفاعله المباشر إيجاباً وسلباً بحركة الإنسان وأعماله .. وهذا الميزان أسراره مبثوثة بتلك القوانين والسنن التي تحكم حركة الحياة والكون والإنسان أو التي اصطلحنا عليها باسم السنن الكونية والإلهية .
ولكي يستبين الأمر أكثر أذكر هنا حديثاً واحداً يبرز هذه القيومية وعلاقة العمل بنتيجته ، وذلك من خلال سنن إلهية واضحة ومباشرة في الربط بين السبب والنتيجة والحديث يتعلق بعلامات الساعة .


عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما  قَالَ : أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ r  فَقَالَ } يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ ! لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمِ الَّذِينَ مَضَوْا . وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ . وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا ، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ . { ([1])

 

المعلوم أن هناك سننا وقوانين ربانية تحكم حياة البشر (_ )   ، كما أن هناك سننا ربانية تحكم المادة ، وللأسف استطاع الإنسان أن يكتشف كثيراً من القوانين التي تحكم المادة وأن يستفيد منها في تيسير حياته  }   إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ {  ([2])  إلا أن الإنسان لجهله وطغيانه لم ينتبه لتلك القوانين التي تحكم حياته وعلاقته مع الخالق وعلاقته مع البشر ، فوقع في المحظور .
والحديث الذي بين أيدينا ينبهنا إلى بعض السنن والقوانين التي تحدد لوازم العقوبات الربانية وموجباتها ؛ بحيث يبين الحديث أن لكل معصية عقوبة مخصصة لها ، تتناسب وطبيعة المعصية .

الجريمة الأولى : انتشار الزنا .


نلحظ في الحديث أن أول المعاصي الموجبة للعقوبة  هي الفاحشة ، ويراد بها هنا الزنا ، ويستفاد من قول النبي r» لم تظهر في قوم قط « أمران ، وهما :

* الأول : إن العذاب مرتبط بظهور الزنا في المجتمع ؛ أي تفشيه لدرجة يصبح طبيعياً لا ينكره أحد أو يوجد منكر إلا أن درجة الإنكار ضعيفة لا تؤثر في انتشاره وتفشيه .
* الثاني : إن العقوبة في هذه الحالة تكون عامة تنال من أي قوم يقعون فيها ؛ أياً كان هؤلاء القوم ؛ لذا جاءت كلمة قوم نكرة للتعميم ، وكلمة » قط « للدلالة على قطعية حصول العقوبة .
   

  الملاحظ أن النبي قد بين أن العقوبة المترتبة على انتشار الزنا هو انتشار الأوجاع والطاعون والأمراض الأخرى الجديدة غير المعهودة من قبل ، فكما أن الإنسان قد اعتدى بنفسه  على روحه الإنسانية بطاعون الروح ( الزنا) ؛ لذا ناسب المقام أن يبتلى جسده بالطاعون والأوجاع ؛ ولئن استطاع البشر أن يجدوا بلسماً شافياً للطاعون ، و اعتلوا سنام الغرور في عصر العلم بأنه لا يعجزهم شي  فليعلم  }  َالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ{  ([3])  ؛ وما داموا غير معجزين في الأرض ؛ إذا سيبتلون من خالقهم بأمراض لا قبل لهم بها ، ولا معرفة لهم بأسرارها تحول أجسادهم إلى جحيم قبل جحيم الآخرة ، وأكبر مثال على ذلك ما عهده القرن الحالي والقرن المنصرم من أمراض جنسية سرية كثيرة ، لعل أهمها وأخطرها مرض الإيدز الذي  حير العلماء في عصر العلم ، والعجيب في هذا المرض أنه يضرب جهاز المناعة لدى الإنسان ؛ أي يضرب نعمة من أعظم نعم الله على جسد الإنسان ؛ وهذا يتناسب مع جريمة الزنا التي تضرب مناعة المجتمع ، وتهتك متانته ، وتفسد أواصره ، والجزاء من جنس العمل ،  }  مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ{  ([4])  

 

الجريمة الثانية : التطفيف في الكيل .


وهذه الجريمة  من الجرائم العظمى التي وقع فيها قوم شعيب فاستحقوا بسبب كفرهم ووجودها عذاب الله ، ولعل خطورة هذه الجريمة تتمثل بأكل مال الغير بالباطل دون شعوره بذلك ، وهذا هو عين الظلم والاستغفال ، وهدف القائمين بذلك زيادة أموالهم وتنعمهم على حساب الآخرين ؛ لذا استحق هؤلاء ثلاثة أشكال من العقوبات تتناسب وطبيعة الجريمة :
* العقوبة الأولى : القحط وقلة الأمطار الممحقة للخير على الأرض ؛ فلا يجد هؤلاء كفايتهم ؛ بل لا يجدون ما يزنونه لكي يطففوا فيه ، فطمعهم بالقليل أذهب عنهم الخير الكثير ، يقول الله I : } ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ {  ([5])   .
* العقوبة الثانية : شدة المئونة ، وهي هنا عامة تشمل غلاء الأسعار ، وكثرة الضرائب التي تأكل الأخضر واليابس ، وكثرة تكاليف النقل وتعسيرها على أهلها … وغير ذلك من شدة المئونة التي لا تبقي ولا تذر ، حتى يصبح تحصيل الشيء القليل يتطلب الجهد الجهيد ، يقول الله I  }   وَالَّذِي خَبـُثَ لا يَخْـرُجُ إِلَّا نَكِداً  {  ([6]) 
* العقوبة الثالثة : جور السلطان وظلمه للرعية ، وأخذ أموالهم أو مصادرتها دون أدنى حق ، و التشديد عليهم بالضرائب والجمارك ، وهذا يتناسب وطبيعة معصيتهم ؛ فلئن وجد المطففون وسائلهم لأكل مال الناس بالباطل والاستكثار منه ، فقد وُجِد أيضاً من هو أكثر ظلماً منهم وأشد نكاية بهم ليأخذ منهم ما جمعوا قسراً أمام أعينهم » وكيفما تكونوا يولى عليكم . «  

 

الجريمة الثالثة : منع الزكاة .


الزكاة حق أوجبه الله سبحانه وتعالى على الأغنياء حقاً للفقراء ، وهي عنوان تزكية وبركة لأصحابها }    وَيُرْبِي الصَّدَقَات {  ([7])  ومنعها نوع من أنواع كفر النعمة ، وسبب المنع هو الطمع والتزيد بما لا يملك حقيقة ، و إن كان في الظاهر هو المالك له ، وما دام الإنسان يمنع الحق عن إخوته طمعاً ؛ إذا ليعاقب الإنسان بمنع فضل الله سبحانه وتعالى عليه ، وكفران النعمة سبب لزوالها ؛ فكانت العقوبة بمنع القطر من السماء ولولا وفور رحمه الله بخلقه ممن يعايش هؤلاء الجاحدين كالبهائم لم يمطروا قطرة واحدة من السماء ، فنزول المطر عليهم ليس كرامة لهم بل رحمة ببهائمهم .

الجريمة الرابعة : نقض عهد الله ورسوله .


المعلوم أن هناك مواثيق غليظة بين البشر وبين الله سبحانه وتعالى من لدن آدم على ألا يشركوا بالله شيئاً ، ويسمعوا ويطيعوا ، وقد انتقلت هذه المواثيق عبر الرسل إلى أممهم ، إلى أن انتهت بالرسول الخاتم محمد ، و الحفاظ على هذه العهود والمواثيق هو الذي يبقي الأمة في دائرة الرسالة والعبودية ، فإذا نقضت أمة هذه المواثيق أصابتها اللعنة وقسوة القلب والخسران في الدنيا والآخرة يقول الله سبحانه وتعالى : }  وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ {  ([8]) } فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة {  ([9])  
وأمة أصابتها اللعنة والقسوة ؛ لا تستحق حفظاً أو تكريماً من الله سبحانه وتعالى ، بل تصبح نهبة للأمم الأخرى وغرضاً لسهامهم وهدفاً لمطامعهم ؛ لذا تسلط عليها الأمم لتنال من خيرها وخيراتها  .


الجريمة الخامسة : عدم الحكم بما أنزل الله .


وهذه الجريمة تمثل الطامة الكبرى بالنسبة للأمة ، وتخرجها من دائرة العبودية لله سبحانه وتعالى في جميع شئون حياتها ، بل تخرج الأمة من دائرة الرسالة بأكملها ؛ وأي بقاء لرسالة سماوية ما دامت تعاليمها لا تحترم ، ويقدم عليها زبالات الفكر البشري القاصر ؛ لذا وقوع الأمة أو حكامها بهذا الأمر يترتب عليه لا محالة الشرذمة والتشيع والتفرق المفضي للحقد والكراهية المؤدية للاقتتال الداخلي ، فخروج الأمة من دائرة الحاكمية لله إلى دائرة الحاكمية للأهواء والمصالح ليس له إلا محصلة واحدة وهي اشتعال النار الداخلية بين أفراد الأمة من  ذوي الأهواء والمشارب المختلفة،وحعل بأسهم بينهم شديد .

 

 * الخلاصة:

 

  1.             الحديث السابق يبرز لنا طرفاً من السنن الإلهية المباشرة مبرزاً علاقتها بالسنن الكونية ، فمنع المطر من السماء (سنة كونية ) متعلق بمنع الزكاة ( أمر شرعي متفرع عن السنن الإلهية ) ، انتشار الفاحشة بأوصاف معينة يترتب عليه أمراض غير معهودة للإنسان ،  وهذه السنن جاءت على شكل قوانين حتمية مباشرة تربط بين السبب والنتيجة ، وأكثر الناس شهوداً لها في أرض الواقع هم أولو العلم ؛ لأنهم يدركون هذه السنن ويعلمون نتائجها ، ويستطيعون تأمل آثارها في حركة الإنسان والكون والحياة .
  2.             كذلك الحديث يبرز جوانب من تفاعل السنن الإلهية بحركة حياة الإنسان ، وذلك واضح بين ترك الحكم بما أنزل الله ( الأمر الشرعي والميزان ) والعقوبة هي الاقتتال الداخلي ... والواقع يشهد لذلك بقوة كما نلحظ في كثير من بلاد المسلمين .
  3.            المقالة السابقة أبرزت قيومية الله بالميزان والقسط ، وشهود أهل العلم ومشاهداتهم لذلك خلال تأملهم للناموس من جهة وتأملهم لحال الناس معه وأثر ذلك على الميزان الذي يحكم السنن الإلهية والكونية ... لكن اختلال الموازين عبر الإنسان بشكل صارخ لا يترتب عليه آثار جزئية ، بل ينسحب الأمر ليؤثر على كل السنن الكونية ويغير مسارها بشكل محوري جوهري ، وهذا ما أرشد له قوله تعالى : {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }الروم41 فالفساد لا يقتصر على منطقة بعينها ، بل يبدأ القانون والميزان العام يغير من مساره نحو الاضمحلال والفساد بعيداً عن الانتظام ... مما ينعكس أثر على كل الموجودات فضلاً عن الإنسان ، فالنملة تتأثر بكسب الإنسان ، وما هو أقل منها أيضاً يتأثر ، بل الجوامد أيضاً تتأثر .. وما ينطبق على النملة الكائن الصغير ينطبق على الحوت الكائن الكبير ، فكل الموجودات تتأثر باختلال الميزان بكسب الإنسان وفعله ، وهنا تأتي قيمة العلماء الذين يجتهدون لإعادة الميزان إلى وضعه الطبيعي ، فهؤلاء إن لم يشكرهم بني جنسهم من البشر ولم يستشعروا فضلهم ، فالعجماوات تستشعر الفضيلة وتستوجب الشكر منها لكل من يحاول إعادة الميزان التي بها صلاح حياتها ... هنا يأتي سر قول النبي عليه السلام : («مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا، سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا بِمَا يَصْنَعُ، وَإِنَّهُ لَيَسْتَغْفِرُ لِلْعَالِمِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْبَحْرِ ) [ أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما ] وفي رواية («مُعَلِّمُ الْخَيْرِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبِحَارِ» [ اخرجه الطبراني في الأوسط ] وفي رواية (  إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ. ) [ أخرجه الترمذي ]  فهذه الروايات بمجموعها لا يمكن اكتشاف سرها إلا من خلال فهمنا للميزان والسنن ، فمعلم الناس الخير يجتهد ليعيد الميزان إلى وضعه الطبيعي بما يعود بأثره المبارك على كل الموجودات ؛ لذا يقابل فعله من خلال العجماوت وغيرها بالشكر من خلال الدعاء والاستغفار لهذا الذي يعيد الميزان بما تنتفع من أثره النملة على صغرها في البر والحوت على عظمته في البحر .
  4.             اكتشاف السنن ومعرفة القوانين والموازين يعتبر من أعظم الدارسات الجدية التي تبرز حكمة الله في كونه ، ومن خلاله يمكن تفسير كثير من الظواهر المتعلقة بالاستعمار والاستخلاف ، وكيفية المحافظة على الناموس الخادم للإنسان ، وهذا ما نحاول تجلية بعض أسراره خلال هذه السلسلة .