أولاً : الرؤى والبشارة من السماء .
يقول الله سبحانه وتعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) ) [ سورة يونس ]
أما البشارة في الدنيا فقد جاءت الآثار الكثيرة التي ترشد إلى أن المقصود بها هو الرؤيا الصالحة منها عن عبد الله بن عمرو ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) الرؤيا الصالحة يبشرها المؤمن ، جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " .
وقد نقل ابن جرير نحوه عن أبي الدرداء وأبي هريرة وعبادة بن الصامت وغيرهم . ([1])
يقول الماوردي في تأويل الآية : ( أحدهما: أن البشرى في الحياة الدنيا هي البشارة عند الموت بأن يعلم أين هو من قبل أن يموت , وفي الآخرة الجنة , قاله قتادة والضحاك , وروى علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إِنّ لِخَدِيجَةَ بِنتِ خُوَيِلدِ بَيْتاً مِنْ قَصَبٍ لاَ صَخَبَ فِيهِ وَلاَ نَصَب). الثاني: أن البشرى في الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى له، وفي الآخرة الجنة , روى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو الدرداء وأبو هريرة وعبادة بن الصامت. ويحتمل تأويلاً ثالثاً: أن البشرى في الحياة الدنيا الثناء الصالح , وفي الآخرة إعطاؤه كتابه بيمينه. ) ([2])
إذاً الرؤية الصالحة التي يراها المؤمن أو ترى له هي شكل من أشكال البشرى الثابتة في حق المؤمنين في الدنيا قبل الآخرة ، بل يحتمل أنها المرادة من الآية لأن بشرى الآخرة جاءت الإشارة لها في آيات أخرى ويحتمل أن المراد الأول من الآية بيان عظمة الرؤية في بيان بشرى حقيقية من الله له في الدنيا ، وهي تبرز حاله عند الله ومآله يوم القيامة .
ويفهم مما سبق أن الرؤية الصالحة هي شكل حيوي من أشكال الوحي في الإخبار عن أمور خافية عن الإنسان ، وهي باب حيوي من الأبواب المفتوحة على عالم الغيب ، وما تحمله من بشارة هو على حقيقته وليس من باب الأوهام .
ثانياً : تعظيم القرآن لعالم الرؤى .
عظم الله أمر الرؤية في كثير من المواطن مما يرشد إلى أهميتها وأثرها على الإنسان ، فهي إحدى بواباته على الغيب والمجهول ..
أ- يوسف عليه السلام وعالم الرؤى
سورة طويلة جداً في القرآن كلها ارتكزت على عالم الرؤى وهي سورة يوسف التي تضمنت بدايتها رؤية لصبي وختمتها بتأويل رؤياه ... وتضمنت السورة أيضاً ثلاث رؤى أخرى للساقي والخباز والملك .. فالسورة بأكملها قامت على الرؤية .
ب- إبراهيم عليه السلام وعالم الرؤى .
وقصة إبراهيم وإسماعيل عليه السلام أيضاً تعلقت برؤيا إبراهيم ، والتي انتهت بمنسك من مناسك الحج والأضاحي إلى قيام الساعة .
ج- غزوة بدر وعالم الرؤى :
يقول الله سبحانه وتعالى : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا ۖ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ ۗ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43( [ الأنفال ]
هذه الرؤية المنامية رآها النبي عليه السلام قبل غزوة بدر ، حيث رأى جيش المشركين أنه قليل ، فأخبر بالرؤية الصحابة فتشجعوا للقتال عندما علموا قلة جيش الكفار .. فكانت هذه الرؤية بالذات سبباً حيوياً في نصر المسلمين وتشجعهم للقتال وعدم تهيبهم من لقاء العدو .. وقد بين الله أنه لو أرى النبي أن الكفار كثر أو كثيرين فإن عاقبة ذلك على المؤمنين في اول معركة لهم الفشل والتنازع في الأمر . ومعنى الرؤية أن النبي عليه السلام رآهم قلة قياساً للمسلمين .
لكن هنا يتبادر سؤال مهم جداً وهو أننا نعلم أن الغيب يتميز بالصدق ، فلماذا جاءت الرؤية موحية بخلاف الظاهر .. وهذا سر عظيم له علاقة بطبيعة الرؤى وهو أن الرؤى تحمل معنى رمزياً ، وهذا بخلاف الوحي .. فالرؤى رموز لمعانٍ ، ولو اختلفت رمزيتها عن الشيء الظاهر .
لكن هل الرؤية هنا برمزيتها جاءت بخلاف الحقيقة .. حاشا لله ، بل هي الحقيقة بعينها التي كشفها الغيب وهي بخلاف المشاهد بالعين .. صحيح أن عدد الكفار كان قرابة الألف مدجج بالسلاح مقابل ثلاثمائة أكثرهم لا يحمل السلاح الكافي .. هذا في عالم الواقع والمشاهدة .. لكنهم في عالم الغيب قلة قليلة لا قوة يستندون لها ، لأن القوة لله جميعاً .. فهم قلة قياساً للمؤمنين والعالم الغيبي الذي يساندهم من ملائكة أو جند الله ... فالرؤية جاءت بالصدق لتعكس الحقيقة التي تغيب عن العين الباصرة ولكنها لا تغيب عن قوة البصيرة وهو أن أهل الباطل مهما بلغوا من شأن وقوة ظاهرة فهم عبارة عن قوة وهمية .. وهم تضخم عدد جندهم فهم قليل أمام قوة الحق وجنده الظاهرين والأخفياء .. فالرؤية برمزيتها عندما قالت عن المشركين أنهم قليل ، لإنهم في علم الغيب قوة واهنة ضعيفة وجندهم لا يمثلون شيئاً أمام جند الله .
إذا هنا لم يتدخل الوحي ليكشف هذه الحقيقة المخالفة للظاهر ، بل تدخلت الرؤية لترمز أن الكفار قليل وذلك إشارة إلى وهنهم وضعفهم في مقابل جند الله .. وهذه الحقيقة عبر عنها أبو الأنبياء عندما كان لوحدها يواجه قومه ، لكنه عندما عبر عن نفسه سماها فريقاً .. حيث قال ( فأي الفريقين أحق بالأمن ) هنا لم ينظر إبراهيم عليه السلام لعالم الظاهر والمشاهدة لأنه كان واحداً يواجه جمع كبير وفريق ضخم .. لكنه نظر للحقيقية الإيمانية وهي أن إبراهيم في صف جند السماء وفريقه الأعظم الذي لا يغالب .. لذا سمى نفسه فريقاً من هذا الوجه .. والرؤية هنا في غزوة بدر جاءت لتحكي نفس الحقيقة بمصداقية السماء من خلال رمزية أن كثرتهم المشاهدة هي قليل في ميزان القوة الحقيقية .
لكن ما يعنينا هنا هو أن هذه الرؤية كان لها أثري مفصلي وجوهري في غزوة بدر .
د – صلح الحديبية وعالم الرؤى .
كذلك قصة الحديبيبة ثم بعدها فتح مكة تعلقت برؤية للنبي عليه السلام ، والتي تم تحقيقها في العام الثاني بعد الحديبية يقول الله سبحانه وتعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) [ الفتح ] .
وقد دخل الصحابة ورسول الله مكة في العام الثاني من الحديبية بنفس الوصف الذي رآه النبي عليه السلام مما يشير صراحة إلى أن الرؤى لها حقيقة في كشف المستقبل والأمور الغيبية ومصدر حيوي من مصادره .
الخلاصة :
القرآن الكريم عظم أمر الرؤية في كثير من آياته مما يرشد إلى أهمية هذا العلم الحيوي الذي يعتبراً مصدراً من مصادر الوحي ، أو هو مصادر كاشف للعالم الغيبي في علاقته مع عالم المشاهدة ... وتعظيم أمر الرؤية في كتاب الله يرشدنا إلى عدم التهاون في هذا الباب الذي عظمه الله .
-----------------------------------
([1]) انظر ابن جرير : جامع البيان ( 15/124) ؛ ابن كثير : تفسير القرآن العظيم ( 4/279) ؛ ابن عاشور : التحرير والتنوير ( 11/219)
([2]) الماوردي : النكت والعيون ( 2/442) ؛ ابن كثير : تفسير القرآن العظيم ( 4/279) ؛ ابن عاشور : التحرير والتنوير ( 11/219)