الرسول وعالم الرؤى

أضيف بتاريخ 06/07/2024
Aysha Møhammêd


أما علاقة الرؤى بالسنة النبوية والتجربة المحمدية فيمكن بيانه في البنود التالية :

البند الأول : إرهاصات الوحي والرؤى .

 عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: ( أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، وَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، فَكَانَ يَأْتِي حِرَاءَ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ ) ([1])

هذا الحديث يبرز أن بداية النبي عليه السلام مع الوحي كان من خلال الرؤى التي كان يراها قبل البعثة وكانت تتحقق مثل فلق الصبح .. ولعل لهذه البداية علاقة قوية مع ظاهرة التحنث في الغار بعد ذلك .

البند الثاني : النبي الأعظم بالرغم من ظاهرة الوحي إلا أنه كان يهتم بالرؤى كثيراً .

لفت انتباهي أن النبي عليه السلام كان يهتم كثيراً بالرؤى وبالرغم من وجود الوحي الذي كان بأجلى صوره على مدار التاريخ .. لكن وفرة الوحي وتواصله لم يمنع النبي عليه السلام من الاهتمام بالرؤى وعالم الرؤى ، وهنا يطرح تساؤل مهم جداً وهو ما الذي يمكن أن تقدمه الرؤى زيادة على الوحي ، ولماذا كل هذا الاهتمام من النبي في هذه الظاهرة ؟ وما دام النبي عليه السلام قد اهتم بهذه الظاهرة حتى مع توافر الوحي ، فنحن أولى بهذا الاهتمام خاصة مع انقطاع الوحي وبعدنا الزمني عنه .. وقبل الإجابة على هذه الأسئلة أرى أن أطرح بعض الروايات التي تبرز اهتمام النبي بالرؤى .. عَنْ سَفِينَةَ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَ : ( كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ : أَيُّكُمْ رَأَى اللَّيْلَةَ رُؤْيَا ؟ قَالَ : فَصَلَّى ذَاتَ يَوْمٍ ، فَقَالَ : أَيُّكُمْ رَأَى رُؤْيَا ؟ فَقَالَ رَجُلٌ : أَنَا رَأَيْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ، كَأَنَّ مِيزَانًا دُلِّيَ بِهِ مِنَ السَّمَاءِ ، فَوُضِعْتَ فِي كِفَّةٍ ، وَوُضِعَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ كِفَّةٍ أُخْرَى ، فَرَجَحْتَ بِأَبِي بَكْرٍ ، فَرُفِعْتَ وَتُرِكَ أَبُو بَكْرٍ مَكَانَهُ ، فَجِيءَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَوُضِعَ فِي الْكِفَّةِ الآخْرَى ، فَرَجَحَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ ، فَرُفِعَ أَبُو بَكْرٍ ، وَجِيءَ بِعُثْمَانَ فَوُضِعَ فِي الْكِفَّةِ الآخْرَى ، فَرَجَحَ عُمَرُ بِعُثْمَانَ ، ثُمَّ رُفِعَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَرُفِعَ الْمِيزَانُ ، قَالَ : فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ : خِلاَفَةُ النُّبُوَّةِ ثَلاَثُونَ عَامًا ، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ : فَقَالَ لِي سَفِينَةُ : أَمْسِكْ سَنَتْي أَبِي بَكْرٍ ، وَعَشْرَ عُمَرَ ، وَاثْنَتَيْ عَشْرَةَ عُثْمَانَ ، وَسِتَّ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. ) ([2])

وفي رواية أخرى للحديث عن أبي بكرة : (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ وَيَسْأَلُ عَنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ: " أَيُّكُمْ رَأَى رُؤْيَا؟ " فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، رَأَيْتُ كَأَنَّ مِيزَانًا دُلِّيَ مِنَ السَّمَاءِ، فَوُزِنْتَ أَنْتَ بِأَبِي بَكْرٍ فَرَجَحْتَ بِأَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ وُزِنَ أَبُو بَكْرٍ بِعُمَرَ، فَرَجَحَ أَبُو بَكْرٍ بِعُمَرَ، ثُمَّ وُزِنَ عُمَرُ بِعُثْمَانَ، فَرَجَحَ عُمَرُ بِعُثْمَانَ، ثُمَّ رُفِعَ الْمِيزَانُ، فَاسْتَاءَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " خِلَافَةُ نُبُوَّةٍ، ثُمَّ يُؤْتِي اللهُ الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ " ) ([3])

هاتان الروايتان لنا عندها عدة وقفات : حيث نلحظ أن النبي عليه السلام كان يسأل عن الرؤى بعد صلاة الصبح مباشرة ؛ لأن الذهن يكون حاضراً بما يضمن حضور الرؤية كاملة في الذهن .. كذلك نلحظ أن سياق الرؤية يشير إلى تكرار الأمر من النبي عليه السلام بعد صلاة الصبح مما يوحي بكثرة اهتمامه بالأمر ، وفي الرواية الثانية إشارة إلى أن النبي عليه السلام كان يتفاءل ويبحث عن الرؤى الصالحة ويهتم بها ، كذلك نلحظ أن النبي عليه السلام قد أول الرؤية مباشرة وعرف منها طبيعة المستقبل للأمة خلال الخلافة الراشدة مما يشير إلى أن الرؤية كانت تنبؤية ..

وهنا نرجع للتساؤل السابق وهو لماذا كل الاهتمام بالرؤى من النبي عليه السلام حتى مع توافر الوحي وتجليه بأبهى وأرقى صوره عبر التاريخ ، وما الذي يمكن أن تقدمه الرؤى زيادة على الوحي العام الذي كشف الماضي والحاضر والمستقبل ..

في ظني والله أعلم أن الرؤى تكشف حركة الغيب المتعلقة بعجلة القدر الإلهي ، فهي تتناول تفاصيل دقيقة لتلك الحركة الغيبية ، الوحي العام يتناول سنناً وقوانين ويكشف الحركة الآنية الملازمة للأحداث ، أما الرؤى فهي تكمل المسيرة بكشف تفاصيل تنبؤية تتعلق بأحداث مستقبلية بعينها ، ونلحظ من روايتي الحديث السابق أنه كشف مستقبل الأمة السياسي وبين طبيعة المرحلة الراشدة وتحول الأمة بعدها للملك العضود ..

وما وجدناه في هذه الرواية هو ذاته التي كشفته رؤية النبي عليه السلام لما قبل غزوة أحد ؛ حيث أصبح النبي عليه السلام على اطلاع تام لما ستسفر عنه الغزوة قبل حدوثها .. وذلك من خلال ما رآه في المنام ..

إذا طبيعة عالم الرؤى في تركيزه على أحداث معينة وكشف الجانب الغيبي المتعلق بها ، وهذا الجانب في طبيعته مغاير للوحي العام الذي يحكي سنناً وقوانين أو يتابع بيان الحدث الآني بعد حدوثه ليرز أحكامه .. فالطبيعة التنبؤية والتفصيلية لحركة القدر الإلهي هي ما تتميز ببيانه الرؤى بخلاف ظاهرة الوحي العام .. لذا وجدنا استثماراً قوياً من النبي عليه السلام لهذا الجانب .. ونحن في عصرنا ومع بعدنا عن زمن نزول الوحي أولى بهذا الاستثمار لهذا الباب .

كذلك يمكن استنباط فائدة مهمة من اهتمام النبي بعالم الرؤى وهو أن النبي بذلك يرشد أمته إلى ضرورة التعاطي مع هذا العالم بطريقة جدية وعدم الاستهانة به ، فاهتمام النبي به هو توجيه لأمته لكي تهتم به .

----------------------------

([1]) أخرجه البخاري برقم 3 ( 1/7) ؛ و مسلم برقم 252 ( 1/139) ؛ أحمد برقم 25959 ، قال محققه إسناده صحيح على شرط الشيخين [ المسند ط الرسالة ( 43/112) ]

([2]) أخرجه الحاكم برقم 4438 وقال : وَقَدْ أُسْنِدَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ المستدرك ( 3/71) ] والحديث سكت عنه الذهبي .

([3]) أخرجه أحمد برقم 20445 ، وقال محققه إسناده حسن [ المسند ( 34/94) ]