الإنسان والميزان

أضيف بتاريخ 06/11/2024
Aysha Møhammêd


 اعتمد الإنسان الحديث في فهمه لذاته ولمنهج حياته وللعالم حوله على العقل والحس والتجربة ، والحس قاصر بطبعه ، والعقل استمد قصوره من قصور المواد المغذية له وهي الحواس ، كذلك لا تتسع دائرة العقل لإدراك الحقيقة من جميع جوانبها فهو لا يملك إدراك الماضي بكل حيثياته ولا استشراف المستقبل من جميع جوانبه ولا الإحاطة بالحاضر من جميع ما يلزمه إضافة إلى أن التفكير البشري بطبعه لا يخلو من مزج الحكمة والتدبر بالعواطف والرغبات والنزوات فتتخلى الحكمة فيه عن بعض مكانها ، والتفكير البشري بطبعه أنه إذا أبدع شيئاً لا بد أن يوجد انحيازاً إلى جانب وتفريقاً بين البشر لأسباب لا تمت للعقل بصلة ، كذلك العقل بطبعه أسير لبيئته ، فهذه الجوانب كلها لا تؤهل العقل مع أهميته الكبرى للاستقلال في بناء المعرفة للإنسان خاصة فيما يتعلق بماهيته وجوانب الغيب المتصلة به
 
ولو انتقلنا للتجربة والعلم فهي وإن نجحت على مستوى المادة لما تتسم به من الثبات النسبي والوضوح في سننها وقوانينها ، إلا أنها لم تجد نفس النجاح مع الإنسان لتعقد ظاهرته ، وحتى يستطيع العلم والتجربة من اكتشاف أسرار الإنسان ونظمه الحياتية لا بد من عدة شروط أهمها : أن يحيط العلم بجميع القوانين الفطرية التي تعيشها الإنسانية ، أن يستكمل العلوم التي لها صلة بالإنسان وحياته ، و أن يتم الإحاطة بين معلومات هذين النوعين السابقين ، ويقوم ذهن جمعي عبقري بترتيبها ترتيباً صحيحاً ، ويستدل بها استدلالاً سليماً حتى يمكنه أن يحدد الحقوق و منظومة القيم الخلقية والأصول المدنية التي تحفظ الإنسان من العدول عن الصراط المستقيم . ([1)  وهذا ما حاول أن يشير إليه ألكسيس كاريل لتحقيق إمكانية فهم الإنسان . ولو سلمنا جدلاً تحقق الشروط السابقة تبقى النتيجة خاضعة للتفكير البشري القاصر والمحكوم بمقاييس التحيز والتأثر بالرغبات والميول ، بل نظرة استقرائية لسلم العلم التجريبي في الدراسات الإنسانية وعلم الأخلاق نجد مدى التخبط والعشوائية التي بليت بها البشرية ، ولعل نتائج هذا التخبط ظاهرة فيما آلت إليه الحضارة الغربية .
 
فالعلم التجريبي في المجالات الإنسانية ليس مؤهلاً لصياغة سلم القيم الإنسانية بطريقة متوازنة تحفظ للإنسان إنسانيته . فالعقل والحس وإن كانا مهمين للمعرفة الإنسانية إلا أنهما لا يستطيعان الاستقلال عن دائرة كلية محيطة وهي دائرة الوحي ، واستقراء التاريخ والواقع يحتمان تلك المسلمة ، وخلال رحلة البشرية كانت هناك إضاءات تلهم الإنسان إلى الطريق المستقيم ، وترسم له المبادئ العامة التي يستلهم من خلالها مستقبله وتوجهاته وقيمه ، وتوجه العقل والحس نحو الاستثمار الإيجابي المنوط بهما ، هذه الإضاءات عبر دائرة الوحي كانت من خلال رحلة الأنبياء التي اكتملت برسالة الإسلام .
 
وكانت رحلة الأنبياء وإرسالهم تقتضيها اللحظات الحاسمة في تاريخ البشرية وبقائها ، وكانت تتميز بمعالجة المبدأ والمصير للإنسان والهدف والغاية من وجوده مع معالجات لأهم القضايا التي تخص أمة بعينها إلى أن اكتمل بناء النبوة برسالة محمد r الرسالة الخاتمة ، والتي تميزت بعموم المكان والزمان ، وشمولية العلاج والإرشاد والتوجيه لمسيرة الإنسان كل الإنسان ، أو بعبارة أخرى شمولية الميزان الذي ينظم عجلة حياة الإنسان ، وبدونه تفقد الإنسانية روحها وجوهرها وسر امتيازاتها ، وتنحدر عبر سلسلة الوجود إلى درجة أحط من الحيوان ، فالميزان أهم من الإنسان لأنه به يحقق وجوده الجوهري ؛ لذا قُدم تعليمُ الميزان على خلق الإنسان من حيث ترتيب النعم ، وذلك في سورة الرحمن التي ذكرت نعم الدنيا والآخرة ، وكانت أول نعمة هي الميزان ، يقول الله سبحانه وتعالى :   }    الرَّحْمَنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ  . {  ([2]
 
وهذه الآيات فيها لفتة عجيبة ؛ حيث قدمت نعمة الميزان المتمثلة بالقرآن على نعمة خلق الإنسان ؛ لأن الإنسان بدون هذه النعمة يفقد معاني إنسانيته وجوهر تكريمه وامتيازاته ، وقد جاءت الآيات بعدها لتنبه الإنسان إلى أن الميزان كان مع بداية الوجود محذرة من الطغيان فيه يقول الله سبحانه وتعالى : }  وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ  ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ  . {  ([3])  فخالق الإنسان هو مقدر الميزان ، والتقدير مبني على العلم و الإحاطة المنزهة عن أي نقص أو عيب يقول الله سبحانه وتعالى : }  أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ . {  ([4])}  لاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء { ([5]} وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً { ([6]} وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ { ([7])  } وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ { ([8]} وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً  { ([9]} وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً { ([10]
 
ومعاندة الإنسان ورفضه للميزان لا محالة يترتب عليه الفساد ليس على مستوى الإنسان نفسه فقط ، بل على مستوى الموازين والسنن التي تحكم الوجود حوله يقول الله سبحانه وتعالى : }   ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ . {  ([11]) هذا الفساد أشار إليه  تقرير نادي روما العالمي المعروف بدراساته حول مستقبل العالم أعده كل من ميزاروفيك وبستل وفيه : « لا بد من وجود ضمير عالمي جديد يحكم استخدام الموارد المادية وموقف جديد إزاء الطبيعة قائم على التوافق والانسجام وليس على الغزو والقهر ، وعاطفة قوية تجاه الأجيال القادمة وإحساس باندماج مصيرها معها ... ومن دون هـذه التغـييرات الأساسية فإن الجنس البشري محكوم عليه بالهلاك . » ([12])  
 
كذلك يترتب على هذه المعاندة فهمٌ منكوسٌ وقيمٌ مقلوبة على مستوى الحياة الإنسانية ، إنه الإنسان الذي يمشي على وجهه بدلاً من قدميه  يقول الله سبحانه وتعالى : }   أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . {  ([13])  ، وهذه حقيقة نلمسها يومياً ، فعندما يصبح الشذوذ حقاً إنسانياً وقيمة وجب المطالبة بها وتقريره ينسجم مع ثقافة السلام التي ينشدها العالم ، وعندما يصبح التمسك بالعفة منافياً لثقافة السلام ونزوعاً للتطرف والعنف ، فالانحراف حتى عن الفطرة الحيوانية قبل الإنسانية أصبح تحت إلحاح الواقع المنكوس حقاً أصيلاً من الحقوق الإنسانية وجب المطالبة به ورعايته على مستوى أممي ، وعندما يتم التركيز على الجانب الترابي والغريزي في الإنسان باسم الحقوق أو رعاية لثقافة السلام على حساب الجانب الروحي والخلقي والقيمي ، أو التركيز على الجسد الأدنى وإهمال الروح وهي أسمى ، فهذا واضح أنه فهم منكوس وقيم مقلوبة تحرم الإنسان ذاته وجوهره .. إنه الإنسان الذي يمشي مكباً على وجهه ، وينتصر للجانب الغريزي الشهواني على حساب الجانب الروحي والخلقي والقيمي ، والنتيجة الحتمية أنه يسير نحو الفساد والهلاك والدمار  وبمتوالية متسارعة .  
 
أما القول بالتعارض بين العلم والدين أو العقل والدين ، فهذا أيضاً من الفهم المنكوس و مما يتنافى مع فطرة الإنسان وتركيبة عقله حتى باعتراف العلم والعقل ، فهذا الباحث الأمريكي بوب سامبلز الذي وفرت له الدولة الدعم العلمي الكامل وزودته بفريق علمي متكامل ، وعينة دراسية من
مئات الألوف من خلال الأساتذة العاملين في مختلف الطبقات والبيئات والثقافات .
 
ومن النتائج التي وصل إليها تقسيم العقل إلى العقل الرمزي والعقل المنطقي ، أما عن العقل الرمزي الموجود أو نشاطه في الجانب الأيمن من الدماغ فقد عبر عنه بقوله : « إنه يتبعنا بعناد ويزعجنا بحضوره ، ونحن نتجول في الممرات العقلية ، إنه الرباط العقلي الذي يربطنا بالمجهول الذي يخبرنا عنه الدين ، ويدفعنا لبناء المعابد .. ولقد سمى أينشتاين العقل الرمزي بالهدية المقدسة ، بينما سمى العقل المنطقي بالخادم الأمين . » ([14])   
وكلام سامبلز فيه إشارة واضحة أن العقل الرمزي هو الذي يربطنا بدائرة الوحي ، بل يلح علينا بذلك ، فهو الحاضر المغيب ، أما الخادم الأمين فهو هذا العقل الذي يسير في خدمة تلك الهدية المقدسة التي تربطنا بالوحي أو تربطنا بالمجهول الذي يخبرنا عنه الدين .
ويقول الباحث الشهير في أعصاب الدماغ والحائز على جائزة نوبل جون كارو إكليز ، وذلك بعد إقراره بالعقل غير المادي  ( الروح )  : « .. لذلك نحن بحاجة إلى معاودة الاتصال بمعارف الدين والوحي ، فلقد ذهب العلم أكثر مما ينبغي في تدمير معتقدات الإنسان الروحية العظيمة متعللاً بإنجازاته الكبيرة في العالم المادي ، وأظن أن المشكلة الرئيسة عند الإنسان الحديث هي قيادته الفكرية المصابة بالغطرسة وادعاء ما لا يستطيعون ، يجب أن نؤمن بالغيب العظيم وصلاتنا به ، يجب أن نفتح قلوبنا للمستقبل البعيد مستقبل ما بعد الموت ، فهذا الكون لا يجري دون هدف أو معنى ، فنحن بشر متميزون بين المخلوقات ولكنا لا نفهم سر وجودنا . » ([15])    
 
وفي ذات الاتجاه سارت تجارب جراح الأعصاب الشهير ويلدر بنفليد  الذي أجرى قرابة الألف تجربة على المخ البشري واكتشف بطريق الصدفة أن الإرادة والعقل هي شيء منفصل عن الدماغ ([16])  ، وبالرغم من أن نتائجه جاءت مناقضة لما يعتقد ؛ حيث بنى كل دراسته على أساس أن الدماغ يفسر العقل ، وكانت نتيجة أبحاثه مغايرة للتفسير المادي للإنسان حيث رأى أن تفسير العقل على أساس النشاط العصبي يظل أمراً مستحيلاً كل الاستحالة ، وأقرب إلى المنطق أن نقول أن العقل ربما كان جوهراً متميزاً ومختلفاً عن الجسم([17])  ، ويقول في ذات الاتجاه : « يا له من أمر مثير إذاً أن نكتشف أن العالم يستطيع بدوره أن يؤمن عن حق بوجود الروح . »  ([18])  وهذا المعنى أشار إليه مؤسس علم فسيولوجيا الأعصاب تشارلز شرنغتون بقوله : « هكذا ظهر فرق جذري بين الحياة والعقل ، فالحياة مسألة كيمياء وفيزياء ، أما العقل فهو يستعصي على الكيمياء والفيزياء » « كون وجودنا مؤلفاً من عنصرين جوهريين أمر ليس في تصوري أبعد احتمالاً بطبيعته من اقتصاره على عنصر واحد . » ([19])  
 
وهذه النصوص التي صدرت من أبرز متخصصي الدماغ وغيرها كثير من باحثين كُثر في هذا المجال ([20])، وفي المجال النفسي كما لا حظنا عند إبراهام ماسلو رائد علم النفس الإنسان وغيره كلها تشير إلى حالة المواءمة بين العقل والدين ، حتى من الناحية الفطرية ، فالعقل يطلب دائرة الوحي ويستدعيها بإلحاح ، وعناد الإنسان هو الذي يغيب هذا الجانب الفطري للعقل في الإنسان ، ويتركه فريسة للمجهول وعدم الانضباط ، فالوحي إضافة لكونه يرسم المنهاج العام المبني على العلم والإحاطة المطلقة مبرزاً وظائف العقل والحس في التفاصيل والجزئيات ، هو أيضاً  الذي يكفل تقديم الأخبار الصادقة عن مجاهيل الغيب ومن ضمنها مجاهيل الإنسان ،ويطلب من العقل والحس الاستيقان من مصداقيتها ، كذلك الوحي هو الذي يحدد مسار العقل والحس بعيداً عن ميادين المعرفة الوهمية ، إضافة إلى تنقية الخبرة البشرية من الوهم والخرافة التي تفرزها المناهج المعرفية الخاطئة  .
 
هذا هو الدور الوظيفي للوحي ، وهو من مقتضيات رحمة الله سبحانه وتعالى بالبشر ، وقد اكتمل بناء الوحي من خلال رسالة الإسلام  الخاتمة ، ولبنة البناء النبوي الأخيرة ، ومن خلال الكتاب المهيمن القرآن الكريم ، الذي نال اسمه من القراءة  بصيغة الامتلاء (فعلان) ؛ أي بمعنى أنه منبع القراءة والمعرفة الإنسانية الصائبة ، فالقرآن هو الكفيل بعلاج كل أدواء البشرية ووقايتها في مستقبلها ، وهذا مضمون قوله سبحانه وتعالى : }  وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا . { ([21])
    
والشفاء يقتضي معالجة  كل أدواء البشرية وعللها وانحرافاتها وأشكال الخلل الذي أصابها في فكرها وقيمها ومثلها ، وهويتها . 
والرحمة تقتضي أن تتضمن التعاليم كل ما يرعى مصالحها وحقوقها ، ويحول دون انزلاقها وانحرافها في مستقبلها . فالشفاء علاج آني ، والرحمة وقاية مستقبلية . 
 
من هذا الوجه يمكن القول أن المسئولية المناطة بالأمة الإسلامية بخصوص ثقافة السلام والقيم الإنسانية   هي مسئولية عظيمة أمام الله ، ليس فقط من خلال طرح هذا الموضوع من باب الدفاع عن الإسلام وخصوصيته أمام المجتمع الدولي ، بل أيضاً لأنها هي الوحيدة في الأرض المؤهلة لإنقاذ الإنسانية من الواقع المتردي الذي تتجه إليه بسرعة بما حباها الله سبحانه وتعالى من نعمة الوحي الحق من بين البشرية  ، ويتم ذلك من خلال تقديم برنامج أصيل لمنظومة القيم والحقوق مبني على المعرفة الصائبة المؤسسة على الوحي الإلهي، وأول ما تحتاجه هذه الأمة هي الثقة بموروثاتها الأصيلة والانطلاق من خلالها دون حياء وإلا فالإنسانية إلى فناء .
 
 
([1]) انظر محمود : عالمية الدعوة الإسلامية ( 54)   
([2])  الرحمن : الآيات 1-3 
([3])   الرحمن : الآيات 7-9
([4]) الملك : الآية 14  
([5])  البقرة : الآية
([6]) الأنعام : الآية 80 
([7]) الأنعام : الآية 59
([8]) الإسراء : الآية 60 
([9])  الجن : الآية 28
([10])  الطلاق : الآية 12
([11])  الروم : الآية 41 
([12])   فروم : الإنسان بين الجوهر والمظهر ( 174)
([13]) الملك : الآية 22  
([14]) انظر الكيلاني : فلسفة التربية (  279)
([15]) المرجع السابق ( 285 )   
([16])  يحكي بنفليد عن تجاربه سنة 1933 م وما بعدها  : « عندما جعلت أحد المرضى يحرك يده بوضع الألكترود ( القطب الكهربائي ) على القشرة الحركية في أحد نصفي كرة دماغه كنت أسأله مراراً عن ذلك ، وكان جوابه على الدوام أنا لم أحرك يدي لكن أنت الذي حركتها وعندما أنطقته قال : أنا لم أخرج هذا الصوت أنت سحبته   مني .   يقول بنفليد : إن الألكترود يمكن أن يخلق عند المريض أحاسيس متنوعة كأن يجعله يدير رأسه أو عينيه  أو يحرك أعضاءه .. وإذا حرك الألكترود يده اليمنى فهو لا يقول أنا أردت تحريكها لكنه يستطيع مع ذلك أن يمد يده اليسرى  ويقاوم هذه الحركة . » وخلص من مجموع تجاربه أن عقل المريض الذي يراقب الموقف بمثل هذه العزلة والطريقة النقدية لا بد أن يكون شيئاً آخر يختلف كلياً عن فعل الأعصاب اللاإرادي ، و الدماغ  هو مقر الإحساس والذاكرة والعواطف والقدرة على الحركة لكنه فيما يبدو ليس مقر العقل والإرادة ، و الدماغ يشبه الحاسبة الالكترونية ؛ لذا يحتاج إلى برمجة من قوة قادرة ومدركة وتكون خارج نطاق الدماغ ، إذ لا يتصور أن   تبرمج الحاسبة نفسها ، بل هناك قوة خارجية تبرمجها ، وهكذا العقل والدماغ ، وإن توقع وجود العقل في الدماغ أو في أجرائه أشبه بتوقع كون المبرمج جزءاً من الحاسبة [ أغروس : العلم في منظوره الجديد ( 34 وما بعدها ) ]   
([17])  انظر أغروس وستانيسو : العلم في منظوره الجديد ( 34 وما بعدها ) 
([18])  المرجع السابق ( 41) 
([19])   المرجع السابق ( 30)
([20])   لم يقتصر العلم على الإقرار بدائرة الوحي ، بل نلحظ أنه بدأ يتجه في نتائجه الأخيرة إلى تقرير كثير من المسلمات التي تطرحها دائرة الوحي بدلاً من التشكيك فيها  ، وتكون اتجاه عام قوي بين العلماء بدأ ينتقد بشدة النظرة المادية التي تلغي الروح وبداية النشأة والعلة الأولى للكون يقول عالم النفس إريك فروم : « إن اهتمام علم النفس الحديث= =ينصب في أغلب الأحيان على مشكلات تافهة تتمشى مع منهج علمي مزعوم ، ولذلك لا بد من أن يضع مناهج جديدة لدراسة مشكلات الإنسان الهامة ، هكذا أصبح علم النفس يفتقر إلى موضوعه الرئيسي وهو الروح ، وكان معنياً بالميكانزمات وتكوين ردود الأفعال والغرائز دون أن يعنى بالظواهر الأساسية المميزة أشد التميز للإنسان كالحب والعقل والشعور والقيم . » [   إريك فروم : الدين والتحليل النفسي ( 11) ]  وبخصوص بداية الخلق يقول عالم الفيزياء الفلكية جوزف سلك : « إن بداية الزمن أمر لا مناص منه . »  ويقول الفلكي روبرت جاسترو : إن سلسلة الحوادث التي أدت لظهور الإنسان بدأت فجأة وبعنف في لحظة محددة من الزمن وفي ومضة ضوء وطاقة . » [   المرجع السابق ( 59) ]  واعتبار الكون له بداية من الزمن والمكان يستلزم وجود إله مدبر  ، إذ  ما الذي يميز تلك اللحظة عن غيرها من اللحظات في الأزلية والأبسط أن نفترض الخلق من العدم أي إبداع الإرادة الإلهية للكون من العدم ، وينتهي الفيزيائي إدوارد ميلن بعد تفكره في الكون المتمدد إلى هذه النتيجة حيث يقول : « أما العلة الأولى للكون في سباق التمدد فأمر أضافتها للقارئ ، ولكن الصورة التي لدينا لا تكتمل من غير الله . » [ المرجع السابق ( 60 )  ] 
([21]) الإسراء : الآية 82