جلس هناك في عمق البادية بما تلقى من ظلال كئيبة ، كانت تجربة عصيبة انتهت بذهاب نور عينيه الذي يرى به ما حوله ... لا يهم يكفيه أن يرى بنور قلبه ما تعجز العيون عن رؤيته
ها هو قد طوى السنين طياً وبلغ من العمر عتياً ، وطال به الأمد ينتظر فرجاً لا يعلم أوانه ، والحياة على كبير السن تكون مؤلمة فكيف إن فقد معها نافذته على الحياة حوله ، وكأني به يتمثل قول زهير بن أبي سلمى بقوله :
* سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبالك يسأم
لكنه بالرغم من سئمه لتكاليف الحياة ، إلا أنه ما زال يعيش فكرة ، يعيش أملاً له عليه آثارة من علم لا يدركها من حوله .. فقد انتهى به الأمر أن أقرب الناس إليه وهم أولاده أصبحوا لا يفهمون عليه حتى بدا لهم أن أباهم لفرض حبه لمفقوده الذي طوت عليه السنين قد وصل حد ضياع العقل وهو ما زال يجري وراء أمله المحجوب ورجائه المفقود .
إنهم لم يفهموا على والدهم ، فهو مع كبر سنه فقد نال خصوصية الرؤية بنور الله ، بنور البصيرة ، يدرك ما لا يدركون ، ويرى بقلبه ما لم يدركوه بأبصارهم في واضحة النهار .
كانت آخر كلماته مع أولاده الحاضرين حوله : إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون ... أي لولا أن تقولون أنك هرمت وأصابك داء الكِبر والخرف ... فكانت آخر كلماتهم معه : تالله إنك لفي ضلالك القديم ...
ويبقى الانتظار في لحظاته الأخيرة سيد الموقف ، ثلاثون سنة من الغياب والنسيان ولم تأت أي بادرة من هنا أو من هناك ترشد إلى يوسف ، اختفت آثاره وبدأت تطوي السنون سيرته وذكراه وطال أمد الانتظار ...
ثم فجأة ومن عبق المأساة في فقدان بنيامين الصغير بدأت تتفجر عند نبي الله يعقوب ذاكرة يوسف عليه السلام ، هناك شيء غريب يحدث لا يدركه أولادي ...
» لماذا يطلب الملك منهم أن يأتوا بأخيهم الصغير ؟
» ولماذا رد إليهم أموالهم التي اشتروا بها بضاعتهم ؟
» ولماذا يتهم ولدي الذي أخبره جيداً من بين الجميع بالسرقة ويتم حجزه ؟
» لماذا كان التركيز على بنيامين ؟
لا يمكن أن تكون كل هذه الأحداث بطريقة عابرة، خاصة أنه لاحظ أن الملك منع منهم الكيل إلا أن يأتوا ببنيامين .. هناك سر يقبع خلف تلك الأحداث ، هذا السر لا يخفى على أي حاذق فكيف بنبي الله ..
وهذا السر لا محالة ليس له تفسير إلا أن يكون له علاقة مباشرة بولده يوسف عليه السلام ..
• لكن كيف ؟
• وما علاقة يوسف بمصر ؟
يا بني اذهبوا وتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله.
لكن انتهى الأمر بالنبي أن فقد عينيه ، لكن لا مشكلة .. لو كان يوسف حياً فيكفي أن أضعه في حضني واشتم رائحته وأتحسس انفاسه ، وأهم من يوسف عليه السلام هو ثقتي بربي وإيماني بحسن تدبيره ويقيني بأنه ما قدر تلك الرؤية في غابر السنيين إلا أن الأيام ستجليها كما هي أراها بأم عيني ... أو بأم عين قلبي إن ذهب نور عيني .
لحظات الصمت والانتظار كانت رهيبة على نبي الله الإنسان والشيخ الطاعن في عمق الصحراء والبادية ... وفجأة وإذا بجلبة والأقدام تتحرك متلهفة نحوه ... ها هو شيء يلقى عليه لا يعرفه : يا أبت أبشر .... يوسف ... وهذا قميصه ....
إنها ذات الرائحة التي وجدتها .. إنها رائحة الحبيب ... ما هذا ؟ كأنني بدأت أرى نور الحياة من جديد ... كأن البصر قد عاد إلي ... ما أجملها من صدمة ! ما أروعها من مفاجأة ! لقد ردتي إلي روحي بعد غياب ، ردت إلي بصري بعدما طمسته الآلام !
[فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (96( ]
آه منك يا قميص ! جيء بك قبل ثلاثون سنة لكي تفجعني بيوسف ، وجيء بك الآن لكي تحييني من جديد وتبشرني بيوسف من جديد .
يا أبت : يوسف هو نفسه عزيز مصر ... إنه كبيرها وهو الذي أخذ بنيامين .... وهكذا البشرى .. تأتي فجأة وتحيي من جديد ما أرمته أيام الابتلاء ... تأتي البشرى ومعها اللطف بأكثر مما يتصور إنسان ... يا يعقوب ستكحل عينيك برؤية ولدك وهذا ظنك باللطيف .. لتعلم أن الله هو أرحم الراحمين وهو اللطيف بعباده .
إنها تجربة الحياة ... إنها الرؤية حيث تنعدم عند الآخرين ، إنه إدراك عالم الغيب من خلف ستار رقيق ، وهذا لا يكون إلا لأصحاب النفوس الصقيلة والأرواح الشفافة التي ترى بنور الله وتعلم من الله ما لا يعلمه الآخرون ... وفي الغالب هذه التجربة يعجز أقرب الناس إليك عن فهمها ... بما يستلزم أحياناً الاستيئاس بمن حولك أن يفهموا عليك.