(-3-قرآناً عجباً ( بين يدي قصة يوسف

أضيف بتاريخ 06/11/2024
Aysha Møhammêd


 قصة يوسف التي استغرقت صفحات طوال ، وبدأت بحلم وانتهت بتطبيقه وبينهما كانت معركة سجال تدخل فيها الشيطان وحسد الإنسان وكيد المرأة ، وما يقابلها من معية الرحمن ، ويقين أهل الإيمان ، والصبر على الحرمان .. وانتهت بقوله تعالى : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) [ يوسف ]
 
هذه الآية أسدلت الستار على قصة يوسف لتبدأ الآيات في بيان تعلقها بالماضي والحاضر النبوي والمستقبل بطريقة عجيبة متعلقة بأحداث قصة يوسف نفسها ، وكأن الآيات الأخيرة قد جاءت لترسم البوصلة للأمة في زمان النبي وزماننا نحن بمتوالية من المعاني الخادمة لكل زمان وحسب الظرف الآني الذي يعيشه أهله .
بل العجيب أن الآيات قد أشارت بطريقة ضمنية لآية الدخان وهي تعالج المسائل الأخروية كما سأبين .
 
لكن في معالجتها لحاضر النبي ومستقبل الأمة في علاقتها ببني إسرائيل وكتبهم ، جاء مباشرة قوله تعالى : (ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۖ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) [ يوسف ]
هنا الخطاب للنبي عليه السلام وقد بدأ ببيان أن كل ما سرده الله إليه من قصة يوسف هو من أنباء الغيب التي يوحيها الله لنبيه .. لكن السر العجيب في الآية أنه اختار حدثاً مهماً ومحورياً تم تحريفه في كتب اليهود أو في سفر التكوين نفسه من الأسفار الخمسة والمتعلق بقصة يوسف ، لذا ركزت الآية هنا على وجه الخصوص على تلك المؤامرة التي حصلت من إخوة يوسف قبل إلقائه بالجب ( وما كنت لديهم إذ اجمعوا أمرهم وهم يمكرون )
 
لماذا اختار القرآن الكريم التركيز على هذه الجزئية بالذات في سياق حديثه مع نبي الإسلام ؛ لأن هذه الجزئية بالذات تم تحريفها في سفر التكوين ، بل تم تغييبها بهذا الوصف المطروح بالقرآن ... والقرآن جاء مهيمنا على الكتب السابقة ومصدقاً للحق فيها ، وفيصلاً في المسائل المختلف فيها أو التي تم تحريفها وتغييبها ...  جاء في سفر التكوين بخصوص هذه الجزئية بالذات : (10وَقَصَّهُ عَلَى أَبِيهِ وَعَلَى إِخْوَتِهِ، فَانْتَهَرَهُ أَبُوهُ وَقَالَ لَهُ: «مَا هذَا الْحُلْمُ الَّذِي حَلُمْتَ؟ هَلْ نَأْتِي أَنَا وَأُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ لِنَسْجُدَ لَكَ إِلَى الأَرْضِ؟» 11فَحَسَدَهُ إِخْوَتُهُ، وَأَمَّا أَبُوهُ فَحَفِظَ الأَمْرَ.
 
12وَمَضَى إِخْوَتُهُ لِيَرْعَوْا غَنَمَ أَبِيهِمْ عِنْدَ شَكِيمَ. 13فَقَالَ إِسْرَائِيلُ لِيُوسُفَ: «أَلَيْسَ إِخْوَتُكَ يَرْعَوْنَ عِنْدَ شَكِيمَ؟ تَعَالَ فَأُرْسِلَكَ إِلَيْهِمْ». فَقَالَ لَهُ: «هأَنَذَا». 14فَقَالَ لَهُ: «اذْهَبِ انْظُرْ سَلاَمَةَ إِخْوَتِكَ وَسَلاَمَةَ الْغَنَمِ وَرُدَّ لِي خَبَرًا». فَأَرْسَلَهُ مِنْ وَطَاءِ حَبْرُونَ فَأَتَى إِلَى شَكِيمَ. 15فَوَجَدَهُ رَجُلٌ وَإِذَا هُوَ ضَالٌّ فِي الْحَقْلِ. فَسَأَلَهُ الرَّجُلُ قَائِلاً: «مَاذَا تَطْلُبُ؟» 16فَقَالَ: «أَنَا طَالِبٌ إِخْوَتِي. أَخْبِرْنِي «أَيْنَ يَرْعَوْنَ؟». 17فَقَالَ الرَّجُلُ: «قَدِ ارْتَحَلُوا مِنْ هُنَا، لأَنِّي سَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: لِنَذْهَبْ إِلَى دُوثَانَ». فَذَهَبَ يُوسُفُ وَرَاءَ إِخْوَتِهِ فَوَجَدَهُمْ فِي دُوثَانَ.
18فَلَمَّا أَبْصَرُوهُ مِنْ بَعِيدٍ، قَبْلَمَا اقْتَرَبَ إِلَيْهِمِ، احْتَالُوا لَهُ لِيُمِيتُوهُ. 19فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «هُوَذَا هذَا صَاحِبُ الأَحْلاَمِ قَادِمٌ. 20فَالآنَ هَلُمَّ نَقْتُلْهُ وَنَطْرَحْهُ فِي إِحْدَى الآبَارِ وَنَقُولُ: وَحْشٌ رَدِيءٌ أَكَلَهُ. فَنَرَى مَاذَا تَكُونُ أَحْلاَمُهُ». 21فَسَمِعَ رَأُوبَيْنُ وَأَنْقَذَهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَقَالَ: «لاَ نَقْتُلُهُ». 22وَقَالَ لَهُمْ رَأُوبَيْنُ: «لاَ تَسْفِكُوا دَمًا. اِطْرَحُوهُ فِي هذِهِ الْبِئْرِ الَّتِي فِي الْبَرِّيَّةِ وَلاَ تَمُدُّوا إِلَيْهِ يَدًا». لِكَيْ يُنْقِذَهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ لِيَرُدَّهُ إِلَى أَبِيهِ. 23فَكَانَ لَمَّا جَاءَ يُوسُفُ إِلَى إِخْوَتِهِ أَنَّهُمْ خَلَعُوا عَنْ يُوسُفَ قَمِيصَهُ، الْقَمِيصَ الْمُلَوَّنَ الَّذِي عَلَيْهِ، 24وَأَخَذُوهُ وَطَرَحُوهُ فِي الْبِئْرِ. وَأَمَّا الْبِئْرُ فَكَانَتْ فَارِغَةً لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ. ) [ سفر التكوين ، الإصحاح 37]
 
هنا القصة تغيرت تماماً ، فحادثة إلقائه في البئر حصلت بطريقة عارضة عندما أرسل يعقوب عليه السلام يوسف إليهم لكي يعرف أخبارهم ...
بينما القرآن الكريم يوضح أن المؤامرة كانت مبيتة وأنهم هم الذين راودوا يعقوب عليه السلام لكي يرسل معهم يوسف ...
 
لذا جاء القرآن الكريم ليؤكد على هذه الجزئية بالذات وهي : المكر المسبق والاجتماع والتآمر على يوسف عليه السلام ، وهذه الجزئية تم تغييبها من سفر التكوين لما لها من دلالات مهمة في السياق ، بحيث أن القرآن الكريم ينظر للحدث على أنه كان عن تخطيط مسبق و سفر التكوين اعتبره حدثاً  عرضياً هيأت له الظروف .
وهنا القرآن جاء ليعالج الماضي ويركز على جزئية تم تغييبها من كتب بني إسرائيل ، وجاء ليفصل فيما هم فيه يختلفون ، يقول الله سبحانه وتعالى : (وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (75) إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) [ النمل ]
إذا لا توجد غائبة إلا في كتاب ... وسورة يوسف من أنباء الغيب الذي أوحاه الله لنبيه ... والغائبة التي تم تغييبها تلك المؤامرة المسبقة من الإخوة ليوسف .. لذا جاء القرآن ليكشفها ويقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون .
 
بعد هذه الآية التي عالجت الماضي بما فيه من تغييب لبعض الحقائق ، بدأت الآيات تأخذ طوراً سننياً في المعالجة وفهم الواقع .. وأول هذه الآيات السننية هي قوله تعالى : (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)
هنا الخطاب المباشر لمحمد عليه السلام في تجربته الدعوية ، ثم الخطاب لأمته على مدار الزمان خاصة المبلغين عن رسول الله والدعاة لدينه ...
 
حيث قررت هذه الآية قانوناً إلهياً أو سنة ربانية تتعلق بالهداية والإيمان وهي أن الأكثرية دائماً تكون بعيدة عن الإيمان حتى مع حرص الدعاة والأنبياء والرسل على هداية الناس ، إلا أن حظ الهداية والرحمة سيكون من حظ قلة قليلة في ظل أكثرية ترفض الإيمان أو طريق الحق .. وهذه الآية جاء معناها في آيات أخرى كثيرة منها قوله تعالى : وقليل من عبادي الشكور ... وغيرها من الآيات ..
 
إنها سنة الله في عباده من لدن نوح إلى قيام الساعة ، وهو أن الإيمان سيكون من حظ أقلية في ظل أكثرية متمردة على أمر الله ومجانبة لداعي الهداية والإيمان .
إذاً السنة الأولى تتعلق بالإيمان ونقيضه وحال الناس في القبول والرفض له .. وهذا ينقلنا لسنة أخرى متعلقة بها لكنها سنة كونية متعلقة بتلك السنة الربانية .