(-4-قرآناً عجباً ( بين يدي سورة يوسف

أضيف بتاريخ 06/11/2024
Aysha Møhammêd


 ما زلنا مع قصة يوسف ووقفنا مع الآية الأولى في السنن الربانية والتي تشير إلى أن الأكثرية ستكون محرومة من الإيمان ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) وما دام أكثر الناس ليسوا بمؤمنين ؛ إذا طاعتهم في نهجهم أو طرائق تفكيرهم سيترتب عليه لا محالة الضلال ، يقول الله سبحانه وتعالى : (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) [ الأنعام ]
 
إذاً هناك سبيل لله وطريق واحدة توصل إليه ، لكن أكثر من في الأرض بعيدون عنها واتباعهم لا محالة يترتب عليه تضييع سبيل الحق ، هذه السبيل جاءت سورة يوسف لترسم لنا معالمها لكن بعد قضية سننية مهمة تتعلق بالأكثرية .
يقول الله سبحانه وتعالى : (وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) [ يوسف ]
 
هذه الآية أبرزت لنا سنة إلهية تتعلق بالأكثرية المنشغلة بالدنيا على حساب الحق ، وهي أن الله سبحانه وتعالى يرسل آيات كثيرة سماوية وأرضية لكن الناس يغفلون عنها ، أو يغفلون عن الرسالة التي تحملها الآية في ثناياها .
تأتي الآية فيمر عليها الناس كأنها أمر طبيعي لا يحمل أي دلالة ويكملون مسيرة الحياة دون اتعاظ منها ... وهذه الآية تخاطب واقعنا حتى أكثر من واقع النبي وصحابته في مكة .. لأننا في زمان الآيات ، خاصة أن وسائل الاتصال كل يوم تأتينا بآية تحذيرية فنمر عليها مرور الكرام .. فمن زلازل إلى براكين إلى ثلوج إلى حرائق إلى جراد إلى تغير في الطقس ملحوظ إلى خسوف إلى تغير في معالم السماء إلى تغير في المجال المغناطيسي إلى انزياح في البوصلة والشمال المغناطيسي، إلى تغير في حجم السيول والأمطار الجارفة  و غيرها من الآيات التي تكاثرت فجأة في زماننا ولكن أكثر الناس لا يقرأ هذه الأحداث ولا يرى فيها أي دلالة أو إرهاصات لأمر ما ..
 
هنا الآية بدأت بكلمة ( كأين ) التي تفيد كثرة الآيات والتي نراها بازدياد .. لكن البعض قد يقول : صحيح هناك تغير لكنه تغير طبيعي تمر به الأرض ، أقول لك : علماء الطبيعة لا يرون أن التغير طبيعي ، بل يرون أنه يشير إلى تغيرات محورية لكنها  غير مفهومة لديهم بشكل واضح ، ولو رجعت لقصة فرعون لوجدت أن الله قد أرسل آيات أخف من الحاصلة في زماننا وأسماها آيات كالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وغيرها ..
فهذه الآيات أرسلها الله كإنذارات بين يدي عذاب عظيم .. والمرسل هو الله وليست الطبيعة الجامدة هي التي أرسلتها .
 
لذا مباشرة بعد آية الإنذارات والآيات في السموات والأرض يقول الله سبحانه وتعالى : (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ (106) [ يوسف ]
نعم أكثر أهل الأرض يؤمنون بالله ، لكن أكثر هذه الأكثرية يشركون في إيمانهم ، فالنصارى أشركوا عيسى عليه السلام وأمه بالله .. و هناك من يشرك بأشخاص ، وهناك من يشرك بأحزاب ويجعل الحزب حتى اعظم من أمر الله ، وهناك من يشرك قبور .. وهناك من يشرك الطبيعة ، فيرى الحدث نفسه لكن لا ينسبه لله .. ويعتبره حدثاً طبيعياً وليست رسالة من الله سبحانه وتعالى .
 
هذه الآية جاءت لتقرر لنا سنة في طبيعة الناس خاصة في آخر الزمان .. آيات كثيرة لا يتفاعل معها الناس ولا ينتبه للرسائل خلفها ، والسبب أنهم لم يعرفوا الله وأشركوا به غيره في تجربة حياتهم .
وهذا السياق خاصة بعد الإنذارات التي تأتي من باب الرأفة والرحمة بين يدي عذاب أليم .. اقتضى التحذير من عقوبة عظمى بين يدي الساعة .
 
مباشرة بعد الآيات والنذر وطريقة تفاعل الناس معها يقول الله : (أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) [ يوسف ]
ما داموا معرضين عن الآيات والنذر ولم يفهموا الرسالة جيداً ومضوا في سكرتهم وغفلتهم ، وما داموا يتعاملون مع الأحداث على أنها طبيعية ولم ينتبهوا لمرسلها ولرسالته من ورائها .. إذا لا بد من التحذير الأعظم الذي يخرجهم من أمنتهم وأمنهم .. أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله ... أو تأتيهم الساعة بغتة ... وهم لا يشعرون .
 
* ماذا نفهم من الآية السابقة؟  أنها تحذير بأمرين :

الأول :

غاشية من عذاب الله ... هنا لم يقل الله مع الغاشية كلمة بغتة لأن هذه الغاشية لن تكون بغتة ، بل هي غاشية يترقبها الناس قبل حصولها لعظمتها .. والغاشية هي ذلك العذاب الذي يغشى الناس ويحول دون الرؤية أو الإبصار .. إنها عذاب له تعلق بالرؤية من الدرجة الأولى .. وهو عذاب مترقب بين يدي الساعة أي أن الناس يشعرون بإرهاصاته قبل حدوثه لذا لم يستخدم الله مع هذا العذاب كلمة بغتة التي تشير للمفاجأة به .

الثاني :

مجيء الساعة فجأة .. وهي الساعة المنذرة بنهاية العالم ... ومع كلا الأمرين أيضاً يحرم الناس من الشعور الحقيقي أي يأتيهم الله من حيث لا يحتسبون أو يتوقعون .. الأولى يترقبونها والثانية تبغتهم .
لكن ما المقصود بالغاشية هنا في سورة يوسف ، هل المقصود بها عذاب جزئي لأهل مكة أو لأي أمة معاندة ولماذا هذا الاسم العجيب لها المتعلق بالرؤية والإبصار .. لأن الغشاوة دائماً من نصيب العين يقول الله تعالى : فأغشيناهم فهم لا يبصرون .. ويقول أيضاً عن الكفار : (وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) [ البقرة ] فالغشاوة هي من حظ البصر حتى بنص القرآن الكريم .. فما هي هذه الغاشية التي تحول دون الرؤية الصحيحة وتؤثر على البصر .
بداية لو نظرنا لكل أشكال عذاب الله في القرآن الكريم لوجدنا أن هذا العذاب دائماً يأتي بغتة فالرجم السماوي لقوم لوط كان بغتة ، والطوفان في حق أهل نوح كان مباغتاً لهم ، ولم ينتبه له إلا نوح والمؤمنون بإشارة ربانية خاصة ، صيحة ثمود بالرغم من إنذراهم ثلاثة أيام إلا أنها باغتتهم ، وتلاطم الأمواج على فرعون كان مباغتاً وريح عاد أيضاص باغتتهم .. وخسف قارون باغته ..
 
فأشكال العذاب هنا كلها مباغتة ، لكن الغاشية التي تكلمت عنها سورة يوسف لم تكن مباغتة ، وهذا يجعلنا نبحث عن عذاب محوري هام فيه ثلاث صفات  : الأولى : يتعلق بالرؤية والإبصار  ، والثانية لا يكون مباغتاً بل مرتقباً يرقبه الناس قبل حصوله .. والثالثة : تكون بين يدي الساعة .
لم أجد في  كتاب الله عذاب يصدق عليه الأوصاف الثلاثة إلا آية الدخان ، يقول الله سبحانه وتعالى : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ (16) [ الدخان ]

أولاً :

هذه العذاب ارتبط بدخان مبين من أهم أوصافه أنه يغشى الناس ويؤثر على رؤيتهم للأشياء ويحول الضياء إلى ليل .. وهذا مناسب للفظة الغاشية التي تغشى الناس ، وقد استخدم الله كلمة غاشية للإشارة للدخان في جهنم يقول الله سبحانه وتعالى : (لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) [ سورة الأعراف ] الغواش هنا ما يغطيهم من فوقهم ويحول دون رؤيتهم وهذا يتصور بتلافيف الدخان الكثيف فوقهم .

ثانياً :

 هذا العذاب مرتقب ومتوقع وليس مباغتاً ، وهو موافق لنفس الدلالة الموجودة في عذاب الغاشية في سورة يوسف حيث أنه لم تذكر البغتة فيه مما يشير إلى أنه مرتقب قبل حدوثه .

ثالثاً :

نلحظ في آيات سورة الدخان كان هناك تلازم بين أمرين هما آية الدخان والبطشة الكبرى ، مع آية الدخان قال الله ارتقب ، ومع البطشة الكبرى قال الله : يوم نبطش البطشة الكبرى .. دون ارتقاب مما يشير إلى المباغتة فيها ، وهو نفس التقسيم الموجود في غاشية العذاب والساعة المباغتة في سورة يوسف .

رابعاً :

أما القرينة الرابعة وهي المهمة جداً وهي أن الله قد ذكر مباشرة بعد الدخان والبطشة قصة فرعون وموسى ونهايته ، وقصة فرعون هي القصة الوحيدة في القرآن التي ذكر الله قبل العذاب النهائي فيه إنزال آيات محذرة كالطوفان والجراد والقمل والضفادع وغيرها من الآيات المفصلات .. ونلحظ قبل غاشية سورة يوسف مباشرة جاء ذكر الآيات في السماوات والأرض وبينت أن الناس يمرون عليها وهم معرضون .. وهنا قبل آية الدخان بين الله أن الناس في شك يلعبون .
 
إذاً هذه القرائن الأربعة واضحة في بيان أن المقصود بغاشية العذاب هي آية الدخان الذي يغشى الناس ونلحظ أن سورة يوسف قالت عن العذاب غاشية ، وفي سورة الناس قالت يغشى الناس ..
 
إذاً الآيات في سورة يوسف قد أشارت في آخرها إلى جانب مستقبلي بطريقة عجيبة وأشارت إلى أهم حدثين في الدنيا هم الغاشية وهي آية الدخان الذي يغشى الناس والساعة المباغتة وهي البطشة الكبرى ..