القرآن الكريم كتاب الله الشمولي المطلق من لدن حكيم خبير ، وطبيعة القرآن الكريم أنه حمال أوجه ، أي أن الآية الواحدة لها دلالات متعددة كلها صحيحة ، ومن هذا الوجه لا تنقضي عجائبه ، وللوهلة الأولى قالت عنه الجن : سمعنا قرآناً عجباً .. فهو عجيب في سعة دلالاته ومعانيه ، وعظمة ما يعطيه من معاني بحسب مستوى الوعي الإنساني ، لذا هذا الكتاب بالذات لا تشبع منه العلماء ، لأنهم كلما تعمقوا به وجدوا متوالية من الدلالات والمعاني الجديدة التي تفوق حتى أفهامهم ، وهذا هو أحد أسرار إعجاز القرآن الكريم
حيث خاطب الإنسان البسيط في الماضي في عمق البادية ، وفي ذات الوقت خاطب العلماء في مختبراتهم وما وصلت إليه أفهامهم من علوم . فالقرآن من أوصافه أنه قرآن كريم ، أي يعطي عطاءً سخياً ، وهو قرآن مجيد ليشير إلى ديمومة العطاء فيه إلى قيام الساعة .
أما كيف أن القرآن الكريم حمال أوجه ، أعطي هنا مثالاً ، يقول الله سبحانه وتعالى : فلا أقسم بمواقع النجوم ... هذه الآية تعامل معها العربي القديم وفهم منها أن الله يقسم إما بلحظة غروب النجوم وسقوطها في الأفق ، أو بنزول الشهب كالنجوم .
لكن هل وقف مدلول الآية عند هذا الفهم .. طبعاً لا ..
ففي عصرنا عندما زاد وعي الإنسان وكثرت لديه وسائل فهم العالم الخارجي وعلم الفلك وجد أن ما نراه في السماء ليس هو النجم ، بل موقع النجم قبل آلاف السنين ، لأن هذا النجم يبعد عنا آلاف السنين الضوئية .. وضوءه الذي نراه هو موقعه قبل آلاف السنين أما النجم نفسه في اللحظة التي نراه فيها فهو إما في مكان آخر ، أو انثر وانتهى .. لكننا نرى ضوء الذي استغرق آلاف السنين حتى يصل إلينا .
فعندما يقسم الله بمواقع النجوم كأنه يشير إلينا أننا لا نرى النجم بحسب موقعه وقت رؤيته ، وإنما نرى موقعه الذي كان عليه قبل آلاف السنيين بقدر بعده الضوئي عن الأرض .
بعض المفسرين رأى أن المقصود بمواقع النجوم ، هو مواطن نزول القرآن في مكة والمدينة لأن القرآن الكريم نزل نجوماً أو منجماً بحسب الأحداث ، فالله هنا يقسم بقرآنه وبمواطن نزوله والذي عبر عنه بمواقع النجوم .
لكن هل وقفت الآية وفق هذا الرأي هنا ، طبعاً لا .. لأن من معاني مواقع النجوم أيضاً الحالات التي تؤول إليها الآية النازلة من دلالات ،ـ أو مواطن تأويل القرآن ، بمعنى أن الآية التي نزلت لها مدلول ، عندما يحصل تأويلها يكون هو موقع نجمها . وهذا المعنى أشارت إليه الآية : (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ۚ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) [ الأعراف ]
هذه الآية ترشد إلى أن هناك آيات لم يأت تأويلها ، وعندما يأت تأويلها يكون ظهر موقع نجم الآية .. أي أن الآية التي نزلت نجماً أو نجوماً من السماء لها تأويل عندما يحصل هذا التأويل تكون نجم الآية وقع على موقعها الصحيح ..
فيكون القسم بمواقع النجوم هنا هو القسم بمواطن تأويل الآية بطريقة تؤول فيها حقيقة الآية مع واقعها المنتمي لها .
على سبيل المثال : نزلت أول آيات من سورة الروم لترشد إلى أن للروم غلبة على الفرس بعد بضع سنيين .. فموقع نجم الآية هو حصول هذا الانتصار للروم بعد بضع سنيين ..
كذلك في سياق الآيات نفسها جاء قوله تعالى : ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله .. هذه الآية فهمها الأولي أن المؤمنين سيفرحون بنصر أهل الكتاب الروم على الفرس الملاحدة عبدة النار .. لكن ليس هذا هو موقع نجم الآية .
لأنه عندما انتصر الروم على الفرس بعض بضع سنين كان ذلك موافقاً ليوم بدر الذي انتصر فيه المؤمنون على أهل قريش المشركين .. فالآية لا تتكلم عن نصر الروم ، بل تتحدث أن نصر الروم وغلبتهم سيوافق نصراً للمؤمنين ومعه يفرحون بنصر الله . فهذا هو موقع نجم الآية .
إذاً أنا هنا ذكرت أربع دلالات لآية القسم بمواقع النجوم ، لكن هل وقفت الآية عند هذه المعاني فقط ..
أقول حتماً لا لأن القرآن الكريم لا تنقضي عجائبه ، وكل آية شجرة مثمرة ، وتؤتي أكلها كل حين بإذن الله ، فالقرآن هو مرآة الحق التي تنعكس بأنوارها على مرآة القلوب الصقيلة بالإيمان ، وبحسب صفاء مرآة القلوب تتراءى عليه معاني كتاب الله الذي لا تنتهي عجائبه .
