ميثاق عالم الذر ويوم عرفة ( فهم جديد )

أضيف بتاريخ 06/15/2024
Aysha Møhammêd


ملاحظة : هذه فكرة أحاول فيها كشف سر المنسك الأعظم في عرفة وهي خاطرة لا أظن أنه قد سبقني إليها أحد ، لأنها كانت عبارة عن تأملات خاصة وليس دراسة مسبقة ، وهذه الفكرة هي نواة لموضوع متكامل لكنني هنا وضعت مسودة صغيرة منه بين يدي يوم عرفة ، وهذه المقالة تحتاج تأمل ودراسة متأنية ........

 

يوم الميثاق الأعظم

يقول الرب لعالم الذر  : ألست بربكم ......... يقول العبد في عالم المشاهدة : لبيك اللهم لبيك . لبيك لا شريك لك لبيك ..إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ... ويقول الرسول الأعظم :  ( خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا النبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير ) ([1])
 
يقول الله سبحانه وتعالى : {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ }الأعراف172
هذه الآية من الآيات التي كانت محل إشكالية بين المعتزلة وبين أهل السنة ، فالمعتزلة وبعض المفسرين يرونها مجازاً وليس على الحقيقة ، بمعنى أنه لم يحصل هذا الإخراج في الماضي .. بل المراد به أنه أخرج الله تلك الذرية من أصلاب الآباء حيث كانوا نطفة حتى اكتملت أطوار خلقتهم ، ثم صار الإشهاد بما ركب الله فيهم خلال الحياة من دلائل وحدانيته فصاروا بهذا الإشهاد كأنهم قالوا بلى ، وإن لم ينطقوا بهذا على وجه الحقيقة ، أي هذه الآية من باب المجاز التمثيلي . ([2])
 
لكن الرأي الأرجح في الآية أنها على حقيقتها وأن الله خلق الذرية وأخرجها من ظهر آدم عليه السلام وأشهدهم على أنفسهم كما بينت الآية ثم بعد ذلك أماتهم ، ليعيدوا مسيرة الحياة من خلال عالم المشاهدة بالطريقة المعهودة حيث النطفة والعلقة إلى اكتمال الخلق ودورة الحياة ، ويكون معنى الآية هنا أن الذرية بأكملها قد حصل لها نوع حياة في عالم الغيب وعالم الذر وأخذ الله الميثاق من الإنسانية  ثم كانت عملية  إماتة ، ثم بدأت دورة الحياة المعهودة في عالم المشاهدة .
 
وهذا الرأي هو الذي تعززه الأدلة الخبرية الكثيرة ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلى الله عَلَيه وَسَلم يُسْأَلُ عَنْهَا، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلى الله عَلَيه وَسَلم: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ على ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاَءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاَءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلى الله عَلَيه وَسَلم: إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلُهُ بُّهُ الْجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلُهُ بُّهُ النَّارَ.. ([3])
 
فالأثر صريح في بيان أن حادثة إخراج الذرية كان حاصلاً مع آدم عليه السلام ، وخلاله تبين أهل النار من أهل الجنة كما يبرز الأثر .
وفي حديث آخر يبرز حصول هذا الميثاق في عرفة  ،  فعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان - يعني يوم عرفة -، وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قُبلاً قال: أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلى يقوله: بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ سورة الأعراف(172-173) ([4])
 
فالآية بظاهرها والأخبار المتنوعة تؤكد أن العهد والميثاق حصل للبشرية بكيفية محددة وهم في ظهر آدم ، وما طرحه المعتزلة من كون الأمر مجازياً إنما هو يتمشى مع منهجهم في التأويل وتعطيل الأدلة الخبرية .
لكن بأي كيفية كان هذا الميثاق ، لقد تم الإخراج للبشرية الأولى على هيئة الذر ، والذر إما هو صغار النمل ، أو هو هذا الغبار المتطاير في الهواء والذي يضرب به المثل في الصغر ومنه كلمة الذرة .
وكان خلقاً مكتملاً ، لكن بهذه الصورة ( أمثال الذر ) والله على كل شيء قدير ، وحصل الإشهاد والعهد بين الله وبين عباده ، ثم كانت الموتة الأولى ... ثم بدأت مسيرة الحياة الطبيعية في عالم المشاهدة خلال الرحم ثم رحلة الحياة ، ويليها الموتة الثانية التي بعدها النشور .
 
ونفهم من ذلك أن العوالم التي مر ويمر بها الإنسان ثلاثة : عالم الذر وهو عالم حقيقي كل واحد منا وعاه وشاهده والظاهر أن الله عندما رد الذرية لظهر آدم قبض أرواحهم .
والعالم الثاني : هو عالم الدنيا الذي نحياه الآن وقد يكون داعي الفطرة الموجود في داخلنا والذي يدعونا للتوحيد هو من آثار ذلك العهد السابق في عالم الذر .
 
والعالم الثالث : هو اليوم الآخر الذي يشهد على العالمين السابقين .. ووفق هذا المفهوم يستقيم فهمنا لقوله تعالى : {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ }غافر11 فالموتة الأولى هي التي كانت بعد الميثاق والعهد في عالم الذر ، ثم تلاها حياة في الدنيا من خلال دورة الحياة المعروفة ، ثم الموتة الثانية في الدار الدنيا ، ثم بعدها الحياة الثانية يوم البعث .
 
فهذه الآية تشهد لآية ميثاق الذر أنه على حقيقته وأنه حصل بعده وفاة أو موتة .. وإلا بدون هذا الفهم كيف نفسر الموتتين هنا .
وكون الذرية قد عاشت بكيفية معينة في عالم الذر ثم ماتت أمر أرشدت له الآية الكريمة والأحاديث التي منها ما ذكرت وهو ليس مستعجباً ، فالله على كل شيء قدير ، ولكل عالم سننه الخاصة به وكيفيته الخاصة ، على سبيل المثال في العالم الثالث في الآخرة يكون ضرس الكافر مثل جبل أحد وفخذه مثل جبل ورقان وجبل ورقان لوحده طوله 24 كيلومتر وعرضها في بعض النواحي 8 كيلو متر ، فمعنى الآثار أن الكافر يتضخم جسمه بشكل مهول جداً بحيث لو نظر لصورته الأولى في عالم المشاهدة كانت أشبه بالذر أو صغار النمل قياساً لحجمه في النار ... بالرغم من أنه نفس الشخص ، فلكل عالم سننه الخاصة .
 
ونلحظ أن ميثاق الذر في عالم الغيب قبل المشاهدة ركز على قضية أساسية وهي قضية التوحيد ، لكن أين وقع هذا الميثاق وفي أي توقيت هذا يستلزم منا مرة أخرى العودة للحديث النبوي فعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان - يعني يوم عرفة -، وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قُبلاً قال: أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلى يقوله: بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُون سورة الأعراف(172-173) ([5])
 
هذا الحديث يكشف لنا فجأة سر المنسك الأعظم في الحج وهو الوقوف بعرفة ، حيث أبرز الحديث أن مسالة عالم الذر حصلت بنعمان أي بعرفة ، وهو رأي ابن عباس أن الميثاق كان ببطن نعمان وهو وادٍ  إلى جنب  عرفة ، ويحمل أيضاً قول الكلبي على نفس المعنى حيث قال أنه بين مكة والطائف . ([6])
إذا ميثاق الذر حصل في عرفة أو واد نعمان جنب عرفة ، والقضية الأساسية التي ركز عليها الميثاق هو التوحيد ، وأعظم دعاء في عرفة هو شعار التوحيد يقول الرسول الأعظم :  ( خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا النبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير ) ([7])
 
والوقوف بعرفة يعتبر أعظم منسك من مناسك الحج بل هو ركنه الأعظم ، والنبي عليه السلام قال الحج عرفة ... فهو الركن الأعظم .. فما السر في ذلك ولماذا اعتبر الوقوف بعرفة أعظم منسك من مناسك الحج .
قضية ميثاق الذر تكشف لنا هذا السر ، وكأن الحج الذي من معانيه القصد ، هو يراد به الانطلاق بتلك الذرية من كل أنحاء العالم نحو ذات المكان الذي حصل فيه العهد الأول في عالم الذر ، وهناك يكون أدعى للذرية لتذكر الميثاق ، أو بمعنى آخر هذه الذرية التي شهدت العهد في عالم الذر في عرفة كان من أهم مناسكها أن تعود لنفس المكان لتؤكد على هذا العهد في عالم المشاهدة من جديد لذا كان التوحيد هو أهم دعاء بعرفة وهو استجابة العبد وتقريره وتأكيده للميثاق الذري القديم أو استجابة لقوله تعالى : ألست بربكم .
 
فهذا المنسك هو قمة الهرم في التأكيد على عهد عالم الذر وميثاقه لذا الحج عرفة ؛ وتمام النعمة عرفة ... عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، أَنَّ أُنَاسًا، مِنَ اليَهُودِ قَالُوا: لَوْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ عِيدًا، فَقَالَ عُمَرُ: أَيَّةُ آيَةٍ؟ فَقَالُوا: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]. فَقَالَ عُمَرُ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ أَيَّ مَكَانٍ أُنْزِلَتْ أُنْزِلَتْ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ» ([8])
 
فهذا التوقيت العجيب لنزول آية كمال الدين وتمام النعمة إنما يشير إلى قمة الهرم في المكان الذي يمثل حلقة الوصل بين العوالم الثلاثة ، فعرفة هو ذلك المكان التي تكون النفس أدعى لمعرفة وتذكر ذلك العهد والميثاق الغابر في عالم الذر في نفس المكان ، وعرفة تتضمن حشراً طوعياً لعباد الرحمن في عالم المشاهدة ليؤهلهم لحشر الوفادة يوم القيامة يقول الله سبحانه وتعالى : {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً }مريم85 فهم في عالم المشاهدة وفد الرحمن أما في يوم القيامة فهم يحشرون حقيقة  إلى الرحمن وفداً .
 
بل قد تكون تسمية نعمان الذي حصل به ميثاق الذر قد جاء من عظمة النعمة في هذا المقام حيث يتذكر العبد ميثاقه الأول ويأتي للتأكيد عليه ، فنعمان هي بلغة المسند الذي يجعل أل التعريف آخر الكلمة على هيئة الف ونون أو واو ونون ، ولو عربنا نعمان بحسب أل التعريف الحالية فتكون الكلمة النعمة ... وفي جنباتها نزلت آية تمام النعمة .
 
ولعل حديث مباهاة الله في أهل عرفات على وجه الخصوص له علاقة بأنه المقام الأعظم في عالم المشاهدة الذي يؤكد على الميثاق في عالم الذر .

 

 


([1])   أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات باب في دعاء يوم عرفة 5/572-3585، وقال الألباني: صحيح كما في صحيح الترمذي رقم(2837(
([2])   انظر مفاتيح الغيب ( 15/400)
([3])  أخرجه مالك في الموطأ برقم 1873 
([4])   رواه أحمد في المسند 1/272-455، والنسائي في السنن الكبرى كتاب التفسير باب سورة الأعراف 6/347-11191، والحاكم في المستدرك برقم(4000)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1697) والصحيحة (1623).
([5])   رواه أحمد في المسند 1/272-455، والنسائي في السنن الكبرى كتاب التفسير باب سورة الأعراف 6/347-11191، والحاكم في المستدرك برقم(4000)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1697) والصحيحة (1623).
([6])  انظر  القرطبي ( 7،316)
([7])   أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات باب في دعاء يوم عرفة 5/572-3585، وقال الألباني: صحيح كما في صحيح الترمذي رقم(2837(
([8])   أخرجه اليخاري برقم 4407